عاجل:

بين "العاصفة" العالمية و"مرآة القلق" اللبنانية... الذهب يبقى "الحارس الصامت" لقيمةٍ مهددة (خاص)

  • ٧٠

خاص - "إيست نيوز"

في زمنٍ تتقاذفه العواصف النقدية، يطلّ الذهب والفضة كملاذين آمنين وثابتين وسط بحرٍ من الاضطراب. مع نهاية أيلول، تجاوز الذهب عتبة 3800 دولار للأونصة، مدفوعاً بضعف الدولار الأميركي وتنامي التوقعات بخفض أسعار الفائدة. أما الفضة، رفيقة الذهب التاريخية، فقد قفزت إلى مشارف 47 دولاراً للأونصة، مستفيدة من موقعها المزدوج كمعدن صناعي واستثماري، لتؤكد مجدداً أنها أكثر تقلباً لكنها أيضاً أكثر إغراءً للمضاربين.

بوصلة عالمية مرتبكة

هذا الارتفاع لم يأتِ من فراغ. البنوك المركزية ضاعفت مشترياتها، وصناديق الاستثمار عادت إلى المعدن الأصفر كملاذ آمن، فيما الأزمات الجيوسياسية تنفخ في نار الطلب. الفضة بدورها تستفيد من نمو الصناعات التكنولوجية والطاقة النظيفة، ما يعزز مكانتها إلى جانب بعدها الاستثماري.

عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة اليسوعية الدكتور فؤاد زمكحل قال في تعليقه الى "إيست نيوز": “الذهب لم يعد مجرّد أداة استثمارية، بل تحوّل إلى مؤشر على أزمة ثقة عالمية بالعملات والسياسات النقدية. كل ضعف في الدولار يترجم مباشرة ارتفاعاً إضافياً في سعر الأونصة.”

العوامل العالمية المؤثرة

تشير تحليلات موقع "Investing.com" إلى أن الذهب يواصل تسجيل مستويات قياسية، حيث بلغ سعر الأونصة 3748.87 دولار أميركي، بزيادة سنوية تقارب 40.5%. هذا الارتفاع يعود إلى عدة عوامل، أبرزها ضعف الدولار الأميركي، وتزايد التوترات الجيو - سياسية، وتوقعات بخفض أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الكبرى. كما أن الفضة، التي تُعتبر معدنًا صناعيًا واستثماريًا، شهدت ارتفاعًا ملحوظًا، حيث بلغ سعر الأونصة 44.82 دولار أميركي، مما يعكس الطلب المتزايد في الصناعات التكنولوجية والطاقة النظيفة.

انعكاسات الوضع اللبناني

في لبنان، تتأثر أسعار الذهب والفضة بشكل مباشر بتقلبات سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية. وفقًا لموقع"Investing.com" بلغ سعر الأونصة 335,690,099 ليرة لبنانية، مع نطاق يومي يتراوح بين 334,461,250 و338,170,460 ليرة. هذا التذبذب يعكس عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلاد، مما يزيد من إقبال المواطنين على شراء الذهب كوسيلة للحفاظ على قيمة مدخراتهم.

والقصة أشدّ تعقيداً. فالتسعير اليومي يقوم على معادلة دقيقة: سعر الأونصة العالمي بالدولار مضروباً بسعر الصرف الموازي، مع هامش يضيفه التجار. أي حركة في السوق السوداء كفيلة بتغيير الأسعار فوراً، لتجعل الذهب بالنسبة للبنانيين انعكاساً مباشراً لتقلّبات العملة الخضراء.

ذهب سيادي وطلب شعبي

وعلى الرغم من الانهيارات المالية، يحتفظ لبنان باحتياطي ذهبي كبير نسبياً قياساً بحجمه الاقتصادي، ما يمنحه بعداً سيادياً ورمزياً. مصدر مالي رسمي يعلّق: “الذهب هو آخر ما يمكن التفريط به. إنه ليس فقط احتياطياً مالياً، بل ركيزة معنوية لثقة المواطن بالدولة، حتى وإن كانت هذه الثقة مهزوزة.”

في المقابل، يواصل المواطنون إقبالهم على شراء السبائك الصغيرة والعملات الذهبية والمجوهرات، إما للتحوّط من تآكل الليرة أو لتخزين القيمة في وعاء ملموس، رغم الفروقات الكبيرة بين السعر العالمي وسعر البيع المحلي.

مخاطر وحدود

الطريق إلى الملاذ الآمن محفوف بالمخاطر. فالتقلبات في سعر الصرف الموازي قد تُفقد الذهب بريقه فجأة، والاحتفاظ بالمجوهرات يقتطع منه ثمن المصنعية عند إعادة البيع. الدكتور فريد فرج الله يوضح لـ "ايست – نيوز" فيقول: “من يشتري المجوهرات كوسيلة ادخار يخسر فوراً قيمة المصنعية. السبائك والعملات المعتمدة هي الخيار الأكثر أماناً، لكن السيولة عند البيع ليست مضمونة دائماً.”

استراتيجيات وحسابات

بين مضاربة قصيرة المدى على تغيّر الأسعار العالمية وسعي طويل الأمد لحماية المدخرات، ينصح الخبراء بتخصيص 5 إلى 15 في المئة من الثروة للذهب أو الفضة. أحد مديري صناديق الاستثمار يلخص المشهد قائلاً: “الذهب لم يعد رفاهية، إنه أشبه بتأمين على المستقبل. والسؤال لم يعد هل نشتري الذهب، بل كم نسبة ما نخصصه من مدخراتنا له.”

سيناريوهات المستقبل القريب

السيناريو التصاعدي قائم: استمرار ضعف الدولار وخفض الفائدة قد يدفع الذهب إلى ما نحو ال 5000 دولار للأونصة، ما يرفع الأسعار في لبنان بشكل حاد. سيناريو الاستقرار يفترض تراجعاً جزئياً في الطلب مع ثبات نسبي لسعر الصرف، أما السيناريو الهبوطي ـ وهو الأضعف احتمالاً ـ فيرتبط بتحسن اقتصادي عالمي مفاجئ يعيد الثقة إلى العملات.

الخبير الاقتصادي ومحلل اسواق المعادن نديم السبع يشير إلى أن: الذهب لا يزال في مسار تصاعدي، مدفوعًا بعوامل مثل ضعف الدولار الأميركي وتوقعات بخفض أسعار الفائدة. ومع ذلك، حذر من اتخاذ قرارات استثمارية متسرعة، مؤكدًا أهمية التنويع في المحفظة الاستثمارية لتقليل المخاطر. كما نصح بعدم بيع الذهب إلا في حالات الضرورة، مؤكدًا أن الشراء يجب أن يتم خلال فترات انخفاض الأسعار لتجنب المضاربة

ملاذ وحارس صامت

في النهاية، يظل الذهب والفضة في لبنان أكثر من مجرد استثمار. إنهما مرآة للقلق الجماعي ووسيلة دفاعية أمام الانهيارات المتتالية. المواطن الذي يقتني غراماً أو سبيكة صغيرة لا يبحث عن ربح سريع بقدر ما يبحث عن لحظة طمأنينة في بلدٍ تتبدّد فيه العملة وتذوب المدّخرات. وهكذا يواصل المعدنان النفيسان لعب دورهما الأبدي: الحارس الصامت لقيمةٍ مهددة بالزوال.


المنشورات ذات الصلة