عاجل:

حين تتداخل المآذن بالأجراس في العاصمة: سيرة التعايش على حجارة العبادة (خاص)

  • ٣٧١

خاص - إيست نيوز

عبير درويش

في قلب بيروت القديمة، حيث تتلاقى الطرقات الضيّقة بالواجهات التاريخية، لا يُمكن للزائر أن يمرّ دون أن تلامس عينه مشهدًا تُجاور فيه المئذنةُ الجرس، ويحتضن فيه الشارع الواحد مسجدًا وكنيسةً، شاهديْن على قرون من التحوّلات، والتجاذبات، والتعايش.

لبنان، وتحديدًا بيروت، ليست فقط صورة عن تعددية دينية، بل عن عمارة تروي التاريخ بكل ما فيه من تحوّل وتسامح وصراع وعودة إلى الجذور. والمعالم الدينية فيه ليست حجارة صامتة، بل أرشيف مفتوح للذاكرة، والانتماء، والهوية المشتركة.

حين تحوّلت الكنيسة إلى مسجد

أحد أبرز شواهد هذا التداخل التاريخي هو الجامع العمري الكبير في وسط بيروت، الذي لم يولد كمسجد، بل كان في الأساس كنيسة صليبية تُدعى "كنيسة القديس يوحنا" (St. John the Baptist Church)، بناها الصليبيون في القرن الثاني عشر (حوالي عام 1115م).

لكن بعد استعادة بيروت من قِبل المماليك في العام 1291، وبعد أن هُدمت الجوامع خلال الحكم الصليبي، رغب المسلمون في تحويل الكنيسة إلى مسجد. وهنا، بحسب ما ترويه المصادر التراثية، اعترض المسيحيون وطلبوا عدم تكرار ما حدث مع مساجدهم في زمن الصليبيين، فتم التفاهم على ترك بعض الكنائس لهم، بينما حُوّلت هذه الكنيسة إلى مسجد. وقد سُمي بالجامع "العمري" نسبةً إلى الخليفة عمر بن الخطاب، في رمزية للعدل والتسامح في التوسع الإسلامي.

المبنى يحتفظ حتى اليوم بعناصر معمارية بيزنطية ورومانية وصليبية، إلى جانب الإضافات الإسلامية المملوكية والعثمانية، في مشهد معماري نادر يُجسد التحوّلات السلمية للبنى الدينية عبر الزمن.

 الجوامع والكنائس: توازيٌ معماري وتاريخي في فضاء واحد

بيروت ليست المدينة الوحيدة في لبنان التي تحمل هذا النوع من التداخل، لكنّها النموذج الأكثر كثافةً ووضوحًا، ومن أبرز المعالم الأخرى:

• كنيسة القديس جاورجيوس الأرثوذكسية، لا تبعد سوى أمتار قليلة عن الجامع العمري، وبينهما ساحة صغيرة (ساحة النجمة)، تشهد على جوار عمره قرون.

• مسجد المجيدية في وسط البلد، كان حصنًا بحريًا عثمانيًا، تحوّل إلى مستودع، ثم إلى مسجد سُمي تيمّنًا بالسلطان عبد المجيد في منتصف القرن التاسع عشر.

• كنيسة الأرمن الكاثوليك في الجميزة تقابلها عدة جوامع قديمة، في منطقة كانت وما زالت مختلطة دينيًا، حتى في أدقّ تفاصيلها اليومية.

 من المعمار إلى المعنى: ماذا تقول هذه المباني عن التعايش؟

تُظهر هذه المعالم ليس فقط التعدّد، بل قدرة اللبنانيين عبر العصور على إيجاد نوع من التوازن الديني والمعماري، رغم كل ما مرّوا به من صراعات طائفية وحروب.

الباحثة والمؤرخة اللبنانية مي فتّي دافي (May Fatté Davie) تناولت هذه النقطة تحديدًا في أبحاثها، مشيرة إلى أن «المسافة بين الجرس والمئذنة في بيروت، وإن بدت قصيرة عمرانيًا، إلا أنها في الذاكرة طويلة ومتعرّجة. وما يجعلها ممكنة اليوم، هو التراكم الحضاري وليس التعاقد السياسي فحسب».

وفي أحد مقالاته، كتب الصحافي اللبناني سمير قصير: "في بيروت القديمة، لا يُزعج صوت المؤذن ناقوس الكنيسة، ولا ينزعج أحد من تاريخه المختلط.. لأن الذاكرة هنا ليست ملكًا طائفيًا بل ذاكرة مدينة عاشت وتغيّرت ولم تخجل من تغيّرها"

التحوّلات الكبرى التي أثّرت في المشهد الديني

1. الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي سمح ببقاء بعض الكنائس تحت حماية العهدة العمرية، في حين تحوّلت كنائس أخرى إلى مساجد بسبب التغيير الديموغرافي والسياسي.

2. الحملات الصليبية (1100-1291) شهدت تحوّلات عكسية؛ إذ تم تحويل بعض المساجد إلى كنائس. بعد رحيل الصليبيين، أعيد النظر في كثير من تلك المباني.

3. الحقبة العثمانية (1516–1918) وفّرت نظامًا طائفيًا ضمن "الملل"، يتيح للطوائف إدارة شؤونها الدينية، مما أدى إلى توسّع المعابد المسيحية بشكل قانوني ومنظّم.

4. مرحلة الانتداب الفرنسي وما تلاها من استقلال لبنان، رافقتها حركة عمرانية كبيرة شهدت ترميم عدد من الكنائس والجوامع، وإعادة بناء المراكز الدينية، خصوصًا بعد الحرب الأهلية.

الكنائس والجوامع اليوم: من رموز دينية إلى معالم وطنية

خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990)، تضررت معظم دور العبادة، وخصوصًا في منطقة وسط بيروت. ولكن، كان لافتًا أن مشاريع الترميم التي أُطلقت بعد التسعينيات لم تكن طائفية في جوهرها، بل حافظت على الهويّة التاريخية.

الجامع العمري مثلًا، أُعيد ترميمه عام 2004 بدعم من الدولة ومؤسسات خاصة، وعاد ليقف بجوار كنيسة مار جاورجيوس كعلامة حيّة على أن العمارة الدينية قادرة على تخطي الجراح، إن توفرت الإرادة.

من التاريخ إلى الرسالة

الكنائس والجوامع في لبنان ليست فقط نتاج الصراعات والتحوّلات، بل أيضًا دليل على صمود الثقافة المشتركة. كل حجر فيها يروي قصّة: عن صراعٍ أُخمد، أو عهدٍ حُفظ، أو صلاةٍ توجّهت إلى السماء من جرسٍ أو مئذنة.

في زمنٍ كثرت فيه الانقسامات، تعود هذه المباني لتذكّرنا أن التعايش ليس شعارًا يُرفع في الخطب، بل جدرانًا صمدت، وأبوابًا فُتحت للآخر، وتاريخًا مشتركًا يجب حمايته لا طمسه.


المنشورات ذات الصلة