خاص _ "إيست نيوز"
ماردين، قلب التاريخ وروح القداسة
ماردين ليست مُجرّد مدينة على خريطة، بل هي أرض القديسين، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في تناغم مُقدّس. شوارعها الضيقة وزواياها الحجرية الذهبية تحكي قصص آلاف الأرواح التي عبّرت عن إيمانها وصبرها على مر القرون. كل حجر في المدينة يحمل صدى صلوات قديمة، وكل زاوية فيها تُذكّر الزائر بأن القداسة يمكن أن تسكن المكان قبل أن تسكن القلوب.
في ماردين، يشعر الإنسان بأنه يخطو عبر الزمن، بين حضارات تعاقبت وأجيال سطّرت شهادتها بالإيمان، فيظلّ عبق القداسة حاضراً في كل مكان. هُنا، الهواء نفسه يحمل رسالة صامتة: الأرض قد تختبرنا، لكنّها تحتضن أولئك الذين اختاروا الثبات على الإيمان والمحبّة، لتصبح ماردين رمزاً حيّاً للتاريخ والروحانية المُتجذّرة.
ومن قلب هذه الأرض المُباركة، انطلقت حياة شخصية استثنائية، تحمل رسالتها وشهادتها عبر الزمن… المطران إغناطيوس مالويان.
من ماردين إلى صفحات التاريخ: طفولة ومسيرة أسقف
في قلب التاريخ، حيث يَختلط الدم بالإيمان، يَسطع اسم المطران إغناطيوس مالويان كرمز للشهادة المسيحية والوفاء بالإيمان. فإعلان قداسته اليوم ليس مُجرّد حدث كنسي، بل استعادة لذاكرة شعب تعرّض للإضطهاد، وتأكيد على أن الحقّ والإيمان أقوى من كل السيوف والظلم.
نحنُ بقايا سيوف شربنا من حليب الشهادة، لا نَهاب الموت، ولسنا ذمّيين، كرامتنا فوق كُل اعتبار ولن نكون خانعين أو خاضعين لأحد.
تاريخنا وهُويّتنا وأرضنا وعرضنا لن يكونوا تحت سيطرة أي من الغُزاة الجُدد.
ولد مالويان عام 1869 في ماردين، أرض الحضارات وأرض القدّيسين، وسط بيئة مُشبعة بالصلاة والتقوى. منذ صغره شعر بدعوة الله لخدمة الكنيسة وشعبها، ودخل السلك الكهنوتي حتى أصبح مُطراناً لأبرشية ماردين عام 1911. لكنّه لم يكن يعلم أن السنوات المُقبلة ستضعه وجهاً لوجه أمام واحدة من أبشع المجازر في القرن العشرين: الإبادة الأرمنية ومجازر "سيفو".
جذورنا وشهادة الذاكرة
عندما كنت صغيراً، كان المرحوم والدي يصطحبني إلى عيادته، وهُناك على الحائط كانت وما تزال مُعلّقة صورة المطران إغناطيوس مالويان. كُنتُ أنظر إليها مُتسائلاً، لا أعرف سوى وجوه القديسين المعروفين: يسوع المسيح، ومريم العذراء، ومار أفرام السرياني، ومار يعقوب السروجي، ومار شربل، ومار الياس الحي، والقديسة ريتا… وها هو رجل من ماردين يظهر لي قويّاً وحاضراً.
سألت والدي عن هُويّته، وكان يُجيبني بصوت هادئ: "سيصبح قدّيساً يوماً ما، لأنّه عاش على مثال المسيح وبذل حياته من أجل شعبه"… كلماتٌ بقيت محفورةً في ذهني، كنبراسٍ يُنير فهمي للقداسةِ والشهادة.
جذورنا من ماردين، أرض الحضارات والقدّيسين، كانت حاضرة في روايات والدي وجدي عن أيام المجازر وصمود شعبنا، وعن دماء لم تُهدر. كل ذكرى كانت تربطني بالقداسة في واقع عشته البشرية، بعيدًا عن الطقوس فقط، لتعلمني معنى الثبات على الإيمان رغم الألم والمُعاناة.
محكمة الجلّاد: حين يصبح الإيمان أقوى من الموت
في عام 1915، ومع اندلاع حملة التهجير والقتل، رَفَضَ مالويان أن يترك شعبه أو يُساوم على إيمانه. اعتُقل مع المئات من أبناء أبرشيته، واقتيد إلى محاكمة صورية أمام السلطات العثمانية، حيث طُلب منه أن ينكر مسيحيته أو يعتنق الإسلام مُقابل حياته. لكن جوابه كان حاسماً:
"إيماني أثمن من حياتي"
سجّل شهود أنه حتى في لحظات التعذيب كان يشجع المؤمنين على الثبات، مؤكّداً أن موتهم ليس نهاية، بل بداية لولادة جديدة في السماء. وفي النهاية، أُطلق عليه الرصاص مع مجموعة من المؤمنين، فسقط جسده أرضاً، لكن صوته بقي يتردّد عبر الأجيال.
أسقف بذل ذاته على خطى المسيح
بَذَلَ المطران إغناطيوس مالويان، أسقف ماردين، ذاته فداءً عن شعبه ووفاءً لتعاليم كنيسته. خَتَمَ مَسيرته بالشهادة، أعلى درجات المحبّة وبذل الذات. وبعد مرور ١١٠ أعوام على إبادة شعبٍ آمن بالحياة رغم كل الآلام، يأتي إعلان قداسته في ١٩ تشرين الأول ٢٠٢٥ تَكريماً لذاكرة هذا الشعب، وتأكيداً أن دماء الشهداء تنبت قداسة ولو بعد حين.
إعلان القداسة: فرح واعتراف عالمي
إعلان قداسة المطران مالويان اليوم ليس مُجرّد احتفال ديني، بل رسالة للعالم: ماردين، أرض الحضارات والقديسين، تحتفل، والشهداء يفيض النور عليهم، ويُرفع صوت الإعتزاز لقضية الشعب الأرمني التي لا تضمحل بمرور الزمن.
نُثمّن في هذا الإنجاز الكبير غبطة البطريرك روفائيل بيدروس الحادي والعشرين ميناسيان، كاثوليكوس بطريرك بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك، على قيادته الحكيمة ومُثابرته، ونعبر عن تقديرنا لكل القيّمين من الإكليروس والعلمانيين الذين ساهموا بإخلاص في هذا الإنجاز الروحي، ليُصبح محطّة فخر لكل الأرمن والكاثوليك حول العالم.
شهادة الإيمان في عيون الكهنة: الأب موسيس دونانيان
وفي هذا السياق، قالَ الأب موسيس دونانيان، خوري رعية سيدة الزهور في بغداد وعضو جمعية كهنة بزمار البطريركية، في تصريح خاصّ لـ "إيست نيوز": أن قداسة المطران مالويان تكمن في إيمانه القوي بالمسيح وشهادته البطولية، كونه أحد أفراد جمعية كهنة بزمار البطريركية. إغناطيوس مالويان، بشهادة حياته، يُمثّل مليوناً ونصف المليون أرمني سفكوا دماءهم حبّاً بالمسيح، ودون تردد اختاروا الموت على الإرتداد أو التضحية بإيمانهم".
تميّز المطران مالويان بقداسته وفضائله، وانعكست خدمته الرعوية المثالية في رعاية شعبه وتقديم خدمات جليلة حتى للدولة العثمانية، ما لفت أنظار الباب العالي في إسطنبول، الذي كافأه بأوسمة رفيعة تقديراً لعطاءاته.
وعندما زار مالويان دير بزمار، مسقط رأسه، بعد غياب طويل، استُقبل بتكريم كبير من قِبَل إخوانه. وعندما طُلب منه التوقيع في السجل الذهبي للدير، كتب بتواضع: "للأسف، لم أفعل شيئاً يستحقّ الذكر"، مُستذكراً الخدمات التي قدّمها لشعبه.
الإيمان هبة من الله، وبشفاعة القديس مالويان نُصلّي أن يمنحنا الرب هذا الإيمان القويم، لكي نستحقّ أن نكون جديرين بإرث أسلافنا".
المطران مالويان: شهادة تتجاوز الزمان والمكان
قداسة المطران مالويان ليست قصّة شخصية فقط، بل رمز لشعب بأكمله. في زمن تُنتهك فيه حقوق الأقليّات وتُستباح الأوطان، تذكّرنا سيرته أن الشهادة ليست موتاً، بل فعل مقاومة روحية ضدّ الظلم، وأن الكرامة الإنسانية تُقاس بالثبات على القيم، لا بالسنوات أو المنصب.
رسالة إلى لبنان والعالم: الشهادة أقوى من الطغيان
من لبنان، حيث استقرّ كثير من أبناء الأرمن الهاربين من الموت، يتحوّل هذا الحدث إلى فرصة لتجديد الإيمان، ورفع صوت الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية عالياً: إننا هنا باقون، وشهادتنا لم تذهب هباءً. المطران مالويان لم يسعَ للبطولة، بل سلك مع شعبه طريق الحقّ، وواجه الموت بكرامة وشجاعة.
بعد أكثر من قرن على استشهاده، وبعد أن ارتفع اسمه على مذابح القداسة، يبقى السؤال مطروحاً:
هل نملك اليوم الشجاعة لنحوّل شهادتنا وإيماننا إلى فعل حيّ يُغيّر حاضرنا، أم نكتفي بأن نكون شهود زور، صامتين على اندثار هُويّتنا؟ التاريخ كُتب بدماء الشهداء، فماذا سنكتب نحن بأفعالنا؟.