عاجل:

بعد اقل من شهر على تكليفه تشكيل الحكومة الفرنسية ...وهبة: استقالة لوكورنو تظهر ان الأزمة أعمق من مجرد استقالة (خاص)

  • ١٢٣

خاص – "ايست نيوز"

مالك دغمان

في مشهد يعكس عمق الانقسامات السياسية التي تعصف بفرنسا، أعلن رئيس الوزراء سِبَاستيان لو كورنو استقالته بعد أقل من شهر على تعيينه، في خطوة غير مفاجئة للمتابعين الحريصين على قراءة خفايا السياسة الفرنسية المعقدة. ما بين الأضواء الساطعة والدهاليز المغلقة، تكشف هذه الاستقالة عن أزمة حقيقية في نظام الحكم الفرنسي الذي يراوح بين رئاسة قوية وبرلمانية هشة.

خلفيات الأزمة

تُعد الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي تأسست عام 1958، من الأنظمة السياسية ذات الطابع الرئاسي البرلماني، حيث يمنح الدستور للرئيس سلطات واسعة، لكنه يعتمد أيضًا على تعاون البرلمان لتشكيل الحكومة وتمرير التشريعات. في السنوات الأخيرة، تزايدت تعقيدات المشهد السياسي بسبب التحولات الحزبية، والصعود اللافت لقوى اليمين المتطرف، وتفكك اليسار التقليدي.

في الانتخابات التشريعية التي جرت مؤخراً، فشل الرئيس إيمانويل ماكرون في تأمين أغلبية واضحة داخل الجمعية الوطنية، مما أدى إلى حكومة أقلية هشّة ومليئة بالتحديات.

فشل محاولات التوافق

عين ماكرون سِبَاستيان لو كورنو في محاولة لإعادة الاستقرار إلى الحكومة، لكن التحديات كانت أكثر مما يمكن تحمله. في بيانه الأخير، أشار لو كورنو إلى "فشل تشكيل أغلبية مستقرة" وعدم رغبته في فرض أجندته بالقوة باستخدام المادة 49.3 من الدستور، التي تسمح بتمرير القوانين دون تصويت البرلمان. هذه المادة مثيرة للجدل في فرنسا، لأنها تُعتبر قيدًا على الديمقراطية البرلمانية، وهو ما رفضه لو كورنو حفاظًا على مبادئ الحكم التشاركي.

ما وراء الاستقالة

يرى الباحث في العلاقات الدولية والمحلل السياسي الدكتور طارق وهبي، في حديث لموقع "إيست نيوز" من العاصمة الفرنسية، أن الأزمة في فرنسا "أعمق من مجرد استقالة"، واصفًا الوضع بـ"الشلل البنيوي" الذي يعاني منه النظام السياسي. ويضيف وهبي: "ماكرون، رغم فوزه بولاية ثانية، لم ينجح في بناء ائتلاف برلماني حقيقي، ما جعله أسير موازين قوى هشة وضعيفة، لا تسمح له بالحكم بفعالية".

ويُبيّن وهبي أن النظام الفرنسي، رغم طابعه الرئاسي، يعتمد بشكل كبير على البرلمان، حيث تلعب الجمعية الوطنية دورًا أساسيًا في تمرير القوانين وتشكيل الحكومة. ويبرز وهبي أن "صعود حزب التجمع الوطني، اليميني المتطرف، مع 124 نائبًا، وضع مزيدًا من العراقيل أمام الحكومة، خصوصًا في ظل تحالف اليسار الممزق".

ويشير المحلل السياسي إلى أن اليسار الفرنسي، رغم تحالفه الانتخابي بين "فرنسا الأبية"، والحزب الاشتراكي، والشيوعيين، والخضر، لم يتمكن من تجاوز خلافاته الداخلية، ولا من تقديم بديل سياسي واضح، مما أضعف فرص بناء أغلبية مستقرة.

صراعات وتحالفات غير متماسكة

الأزمة السياسية ليست مجرد خلافات على الأشخاص، بل تعكس أزمات هيكلية عميقة. فحزب "الجمهوريون" الذي يمثل اليمين التقليدي، رفض حكومة لو كورنو، معتبراً أنها إعادة تدوير لوجوه قديمة وغياب لأي مشروع إصلاحي جدي.

إضافة إلى ذلك، أثارت بعض التعيينات جدلاً كبيرًا، مثل اختيار برونو لو مير وزيراً للدفاع، الذي يُحمّل الكثيرون مسؤولية ارتفاع الدين العام، إضافة إلى الاتهامات الموجهة إلى وزيرة الثقافة رشيدة داتي بقضايا فساد، ما أثر على ثقة الجمهور في الحكومة.

خيارات ماكرون المقبلة

يواجه الرئيس ماكرون خيارات صعبة، وسط هذه الفوضى السياسية:

١- تسمية شخصية جديدة يمكنها كسب دعم كتل متعددة، وهو أمر يبدو صعبًا وسط الانقسامات الحادة.

حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، خيار دستوري قد يقود إلى مزيد من التشرذم، خاصة مع توقعات بزيادة نفوذ اليمين المتطرف.

اللجوء إلى إجراءات دستورية صعبة ومعقدة، مثل المادة 7 التي تتيح عزل الرئيس، لكنها تتطلب توافقًا شبه مستحيل في البرلمان.

هل تهتز الثقة في فرنسا؟

ليس المشهد السياسي فقط من تأثر بالأزمة، بل بحسب وهبي الاقتصاد الفرنسي بدأ يظهر عليه أثر الاضطرابات:

انخفضت قيمة اليورو مقابل العملات الرئيسية.

ارتفعت الفائدة على سندات الخزينة، ما يزيد تكلفة الاقتراض.

خسرت الأسهم الفرنسية، خاصة في القطاع المصرفي، نسبًا تتراوح بين 14% إلى 20%.

تواجه الحكومة صعوبة في إعداد موازنة 2026 في ظل هذه الظروف المعقدة.

فرنسا على مفترق طرق

تُعد استقالة لو كورنو مؤشراً بارزاً على عجز النظام السياسي الفرنسي الحالي عن إيجاد حلول وسطى، وهو اختبار حقيقي لقدرة الجمهورية الخامسة على الصمود في وجه تحديات الداخل.

في الوقت الذي تتأهب فيه فرنسا لمرحلة جديدة قد تكون حاسمة لمستقبلها السياسي، يبقى السؤال الأبرز: هل ستنجح القوى السياسية في تجاوز خلافاتها العميقة، أم أن البلاد مقبلة على فصول جديدة من عدم الاستقرار؟

الجواب بيد السياسيين، لكن وفق الخبراء من المؤكد أن فرنسا، بخبرتها التاريخية الطويلة، لن تبقى صامتة أمام هذا الاختبار المصيري.


المنشورات ذات الصلة