آراء حرة ـ "إيست نيوز"
بقلم الباحث في القضايا الروسية د. زياد أسعد منصور
يبدو للوهلة الأولى أنّ شيئًا لا يتغيّر على خطوط المواجهة: فالتقدّم الروسي ما يزال بطيئًا، من دون أن تلوح في الأفق ملامح نصرٍ حاسمٍ أو هزيمةٍ واضحةٍ لأيٍّ من الطرفين. رغم ذلك فإن التقدم الروسي مستمر باضطراد على وقع ضغط دولي هائل تمارسه واشنطن على موسكو بأبعاد وخلفيات مختلفة.
فمنذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ظلّ المشهد المحيط بتسوية الصراع الأوكراني يتأرجح بين موجاتٍ من الحماس المفرط ــ عادةً ما تعقب جولات التفاوض الروسي – الأميركي ــ وبين فتراتٍ من الإحباط واليأس، تتخللها تصريحات عن احتمال استمرار الحرب إلى أجلٍ غير مسمّى.
ولكن لا تبدو أهداف إدارة ترامب في أوكرانيا، مختلفةً جوهريًا عن الأهداف التي سعت إليها إدارة بايدن في عام 2024؛ إذ انحصرت في محاولة فرض وقفٍ لإطلاق النار على طول خطوط التماس مع روسيا، من دون أن تقدّم كييف أيّ التزاماتٍ ملموسة، سوى ربما تعهّدٍ بعدم السعي إلى تغيير الحدود الجديدة بالقوّة.
الاختلاف ما بين بايدن وترامب.
لم تكن تلك الجهود، في حال قامت بها إدارةٌ أخرى، لتُرفَق بحملاتٍ خطابيةٍ ناريةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي أو بتصريحاتٍ دراميةٍ صاخبة كما نشهد اليوم. فلو كانت كامالا هاريس (Kamala Harris) في موقع القيادة، لما أقدمت على إذلال الحلفاء الأوروبيين والأوكرانيين علنًا على النحو الذي يفعله دونالد ترامب، ولَمَا أبدت استعدادًا لتخفيف العقوبات المفروضة على روسيا أو لإحياء التعاون الثنائي مع الولايات المتحدة، ولَمَا تحدثت عن “علاقة شخصية جيّدة” مع فلاديمير بوتين. ومع ذلك، فإنّ الموقف الأميركي الجوهري من الأزمة الأوكرانية ما كان ليختلف اختلافًا جوهريًّا.
فعلى الرغم من طباع ترامب الشخصية وطرحه المثير للجدل، فإنّ خطواته خلال الأشهر الأولى من ولايته جاءت – في جوهرها – عقلانية ومتسقة، إذ هدفت إلى فرض وقفٍ لإطلاق النار على موسكو في أقصر زمنٍ ممكن. تكتيكيًّا، اعتمد ترامب مقاربةً تجمع بين الترغيب والترهيب: من جهةٍ عرضَ إحياء الشراكة الروسية–الأميركية، ومن جهةٍ أخرى هدّد بفرض عقوباتٍ إضافية وتقديم إمداداتٍ عسكرية جديدة لأوكرانيا.
وقد بلغت سياسة “فرض وقف إطلاق النار” ذروتها عندما حاولت واشنطن إجبار الهند والصين على الانضمام إلى حظر النفط الروسي الذي بدأ تطبيقه في شهري تموز وآب. غير أنّ تلك الخطة باءت بفشلٍ ذريع، الأمر الذي اضطرّ ترامب إلى تعديل استراتيجيته وإعادة توجيه مساره نحو موسكو. فاعترف بأنّ وقف إطلاق النار لا يمكن أن يُفرض بمعزل عن اتفاقٍ أوسع نطاقًا، يتضمن شروطًا عسكريةً وسياسيةً محددة – ما يصفه الأميركيون بـ "الضمانات الأمنية".
يدور الصراع الدبلوماسي في المرحلة الراهنة حول معايير الاتفاق المحتمل لإنهاء الحرب الأوكرانية، غير أنّ حدّته لم تخفّ بعد. ويمكن تمييز ثلاثة عناصر رئيسية في التكتيك السياسي الجديد للرئيس دونالد ترامب.
أولًا: تتجنّب الولايات المتحدة الدخول في حوارٍ جوهريٍ مباشرٍ مع روسيا حول “الضمانات الأمنية”. فالعلاقات الروسية–الأميركية باتت خاضعةً لإدارة ترامب الشخصية ولعددٍ محدودٍ من المقرّبين منه. ومن شأن الخوض في تفاصيلٍ دقيقة تتعلق بتسوية الأزمة الأوكرانية أن يتطلب جهدًا منسقًا من مجموعاتٍ من الخبراء، خصوصًا العسكريين، وهو جهدٌ لم يبدأ فعليًا بعد، بحسب المعلومات المتاحة.
وفي المقابل، لا تزال إمكانية إطلاق حوارٍ حقيقي حول إنهاء الصراع بين موسكو وكييف متعثّرة، وربما بموافقة واشنطن الضمنية. فكما صرّح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (Volodymyr Zelensky)، فإنّ تفويض الوفد الأوكراني في المفاوضات مع روسيا يقتصر على القضايا الإنسانية مثل تبادل الأسرى، ولا يمتدّ إلى بحث التفاصيل السياسية والعسكرية لوقف إطلاق النار.
ثانيًا: شرعت الولايات المتحدة في مناقشاتٍ مفصّلة مع حلفائها الأوروبيين والأوكرانيين حول مضمون “الضمانات الأمنية” المستقبلية. ويبدو أن الهدف من هذه العملية هو فرض صيغة تفاوضٍ شاملة على روسيا، بحيث تُعرض عليها نتائج التنسيق الأميركي–الأوروبي–الأوكراني ضمن إطارٍ سياسيٍ رفيع المستوى، ويُطلب منها إما قبول هذه الصيغة أو تحمّل العواقب السياسية والعسكرية المترتبة على الرفض.
ثالثًا: أطلقت واشنطن حملة ضغطٍ جديدة على موسكو، تتضمّن تصريحاتٍ تصعيدية من ترامب – من أبرزها وصفه روسيا بـ«النمر الورقي» – فضلًا عن تسريباتٍ متعمّدة حول احتمال نقل أسلحةٍ أكثر تدميرًا إلى أوكرانيا. كما تتواصل محاولات واشنطن لإقناع الهند بالتخلي عن النفط الروسي، في مسعى لحرمان موسكو من الإيرادات المالية الضرورية لتمويل عملياتها العسكرية الخاصة.
وتعمل كييف في تنسيقٍ وثيقٍ مع الولايات المتحدة، عسكريًا وسياسيًا. وتشير تصريحات زيلينسكي الأخيرة إلى استعدادٍ لفتح نقاشٍ حول الشروط السياسية لإنهاء الحرب، بل ولإجراء انتخاباتٍ رئاسية وربما التنحي بعد فترةٍ وجيزة من التوصل إلى وقفٍ مستقرٍّ لإطلاق النار.
وفي هذا الإطار، تخوض القيادة الأوكرانية حملة ضغطٍ مركّزة على موسكو، تضمّنت – ضمن جوانبها التقنية والعسكرية – مباحثاتٍ حول إمكانية تزويد كييف بصواريخ “توماهوك” (Tomahawk) واستخدامها لضرب أهدافٍ داخل الأراضي الروسية التاريخية.
ولا شكّ في أنّ الضربات التي تُنفّذ في عمق الأراضي الروسية، شأنها شأن العمليات التخريبية الكبرى التي تطال أهدافًا مدنية أو بنى تحتية حيوية، لا يمكن أن تتمّ من دون دعمٍ وموافقةٍ أميركية، سواء في ظلّ إدارة جو بايدن (Joe Biden) أو إدارة ترامب. ويذهب مراقبون روس إلى أنّ تزايد انخراط الولايات المتحدة في هذه الأنشطة العدائية داخل الأراضي الروسية – بما في ذلك ما يُعدّ استهدافًا مباشرًا للمدنيين – يشكّل أحد الحقائق البنيوية في العلاقات الروسية–الأميركية المعاصرة، وهي حقيقة لن يكون من السهل تجاوزها في المستقبل المنظور.
يدور الصراع الدبلوماسي في الوقت الراهن حول معايير هذا الاتفاق وحدوده، من دون أن تخفّ حدّته. ويمكن تحديد ثلاثة عناصر أساسية في تكتيكات ترامب الجديدة:
أولًا، تتجنّب الولايات المتحدة الخوض في حوارٍ جادٍّ ومباشرٍ حول الضمانات الأمنية مع روسيا. فالعلاقات الثنائية باتت خاضعةً لرقابة ترامب الشخصية وعددٍ محدود من المقرّبين منه. كما أنّ مناقشة المسائل الجوهرية المرتبطة بإنهاء الأزمة الأوكرانية تتطلّب عملًا مؤسّسيًا منظّمًا من جانب مجموعاتٍ متخصّصة من الخبراء، ولا سيما العسكريين، وهو عملٌ – على حدّ علمنا – لم يبدأ بعد.