عاجل:

الصراع الروسي الأوكراني: من الدعم إلى التورط.. تحوّل الاستراتيجية الأميركية في أوكرانيا (2-3) (آراء حرة)

  • ٣٣

آراء حرة - "إيست نيوز"

بقلم الباحث في القضايا الروسية د. زياد أسعد منصور

في ضوء التحوّل الأخير في مواقف إدارة ترامب، بات واضحًا أن السياسة الأميركية حيال أوكرانيا دخلت مرحلة ما بعد الدعم التقليدي، نحو تدخل استخباراتي مباشر يُستخدم عبر الأقمار الصناعية والمعلومات الاستخبارية الفضائية، وحتى الإعلان عن تزويد كييف بـ صواريخ توماهوك Tomahawk لضرب الأهداف داخل الأراضي الروسية. هذا التطور ليس مجرد تعديل تكتيكي في دعم الحليف، بل يشير إلى خطوة باتجاه تورُّط أميركي مباشر في العمليات القتالية ـ وهو ما يضع العلاقة الأميركية الروسية على مفترق طرق، ويثير تساؤلات قانونية وأخلاقية حول ما إذا كان هذا التورط يعني أن واشنطن قد أصبحت طرفًا في النزاع، متّهمة بقتل مواطنين روس باستخدام أسلحة أميركية.

1. تغيّر الموقف الأميركي: من دعم إلى تدخل

منذ توليه الرئاسة، لم تكتفِ إدارة ترامب بالدعم المادي والعسكري لأوكرانيا، بل دفعت بمكانة المساعدة إلى مستوى جديد عبر مشاركة المعلومات الاستخباراتية التي تُقدّمها الأقمار الصناعية، وتوجيه عمليّات توجيه دقيقة للصواريخ داخل نطاق موسكو. هذه الخطوة تُعدّ نوعًا من التدخل المباشر المعمّق، لا يختلف كثيرًا في جوهره عن مشاركة استراتيجية في التخطيط والتنسيق للخسائر الأرضية.

2. انعكاسات على العلاقة الأميركية – الروسية

هذا التحوُّل في طبيعة الدعم يرفع سقف المواجهة بين واشنطن وموسكو، ويُحوّل النزاع من حربٍ برية إقليمية إلى صراع بين قوتين عسكريتين متقاربتين، تراقبان بعضهما البعض عن كثب في الفضاء الخارجي. كما أن استخدام تكنولوجيا الأقمار الصناعية والصواريخ ذات الدقة العالية يوسّع ميدان النزاع إلى ما بعد خطوط الجبهة التقليدية، ما يثير شبهة أن الحرب لا تخص الأوكرانيين وحدهم، بل تُدار من مركزين عسكريين متنافسين.

3. هل تُعَدّ واشنطن طرفًا؟ ومسألة القتل باستخدام سلاح أميركي

بمقتضى هذا التطور، تطرح أسئلة قانونية دولية ملحّة: إذا قُتِل مواطن روسي بصاروخ توماهوك موجَّه من قوة أميركية التوجيه، هل تُعدّ الولايات المتحدة طرفًا متحاربًا؟ وهل تُحمّل دوليًا مسؤولية الحرب؟

من منظور القانون الدولي، فإن تقديم معلومات استخباراتية دقيقة أو توجيه عملية هجومية يُمكن أن يُعتبر مشاركة فِعلية في النزاع. إذا جرى استعمال السلاح الأميركي بصورة مباشرة ضمن الخطط القتالية، فإن ذلك يقترب من مفهوم التحالف الضمني، الذي ينطوي على مسؤولية جزئية في الأفعال المرتكبة.

ومع ذلك، فإن واشنطن قد تحاول التمايز، مبرّرةً ذلك بأن الأسلحة والتوجيه يُقدَّمان لأوكرانيا كحليف مستقل يُحمّل مسؤولية التنفيذ النهائي، لكن في ميدان الحرب الواقع يكون مختلفًا ويُقاس بحسب الفعل لا بالنيّة المعلنة.

النموذج المستدام يترنّح: مستقبل الحرب في أوكراني

في بداية تسلمه سدة الرئاسة كان من اهم من العناصر الأساسية لاستراتيجية ترامب تجاه أوكرانيا النأيَ بنفسِهِ عن الصراع، ونقل تكاليفه المالية إلى الاتحاد الأوروبي، ومحاولة لعب دور "الوسيط". حينها ظهر أن البيت الأبيض كان يسعى بجهد إلى إقناع موسكو بأنه قد تم إيجاد "نموذج مستدام" جديد لدعم أوكرانيا.

يُفترض أن أمريكا ليست متورطة في الصراع، وتكتفي ببيع الأسلحة لأوروبا بأسعار تجارية، وبالتالي ليس لديها ما تخسره من استمرار الأعمال العدائية؛ ويمكن للاتحاد الأوروبي، من خلال تجميع موارده المالية، دعم المقاومة الأوكرانية إلى أجل غير مسمى؛ وتحاول أوكرانيا رغم كل خسائرها إظهار وفائها لرعاتها بأنها قد قادرة على ردع روسيا بنجاح.

يبدو هذا السرد معقولاً ومنطقياً ومتماسكاً داخلياً، إلا أنه لا يمت للواقع بصلة. علاوة على ذلك، فإنه يُظهر جميع سمات الأوهام الانفصامية.

أولاً وقبل كل شيء، لا تزال أمريكا طرفاً فاعلاً في الصراع، إذ توفر منظومة أقمارها الصناعية معظم خدمات الاستخبارات والاستهداف للقوات المسلحة الأوكرانية، بالإضافة إلى كامل البنية التحتية للاتصالات والقيادة العسكرية الأوكرانية تقريباً (حاولت الولايات المتحدة استبدال شبكة ستارلينك بشبكة وان ويب البريطانية، لكنها باءت بالفشل).

تنازلت الولايات المتحدة عن معظم تكاليف المساعدات لأوكرانيا، ولكن ليس جميعها: فهي تدفع تكاليف صيانة قوات إضافية في أوروبا، ونشرها في مواقع متقدمة، وزيادة مستوى نشاطها مقارنةً بفترة ما قبل كوفيد.

في المواجهة العالمية مع الصين، يعاني الأمريكيون من نقص حاد في الأموال؛ فهم يفتقرون إلى القوات والموارد المادية. ولا يزال إنتاج الأسلحة الرئيسية متأخراً عن احتياجات أوكرانيا وحدها، مما يؤدي إلى تأخيرات كبيرة (تصل أحياناً إلى عدة سنوات) في تسليم الأسلحة إلى الحلفاء الآسيويين.

في خضم الصراع الدائر في أوكرانيا، أثبتت الولايات المتحدة مجدداً عجزها عن زيادة وجودها العسكري في المحيط الهادئ. ويكرر ترامب تجربة ولاية أوباما الثانية. في ذلك الوقت، لم يصاحب حديث الرئيس الأمريكي المبالغ فيه عن "التوجه نحو آسيا" زيادة حقيقية في الوجود العسكري في المنطقة، مما أدى إلى تراجع النفوذ الأمريكي.

في الواقع، وضع الولايات المتحدة اليوم أسوأ بكثير مما كان عليه في الفترة 2012-2016. خلال هذه الفترة، حققت الصين نجاحًا ملحوظًا في بناء قوتها القتالية. وقد تغير ميزان القوة العسكرية في المنطقة بشكل كبير، وتزايدت التوترات حول تايوان بسبب الإجراءات الأمريكية السابقة. واستنادًا إلى تصريحات مسؤولي البنتاغون، تتوقع الولايات المتحدة أنه بعد عام 2027، ستنتقل الصين، بعد أن أكملت مرحلة أخرى من التحديث، إلى سياسة أكثر حزمًا في آسيا. وهذا يُشكل ضغطًا إضافيًا على الاستراتيجية الأميركية في أوكرانيا.

المنشورات ذات الصلة