خاص - "ايست نيوز"
هازار يتيم
في وطنٍ تحوّل فيه التلوّث إلى واقع يومي، والنفايات إلى عنوانٍ دائم للعجز الرسمي، انفجرت أزمة جديدة كانت تنتظر لحظة الانفجار منذ زمن: مطمر الجديدة، أحد آخر الأماكن التي "تبتلع" نفايات بيروت وضواحيها، بلغ الحدّ الأقصى من طاقته الاستيعابية... فتوقفت الشاحنات، وامتلأت الشوارع.
في لبنان، لا يحتاج الانهيار إلى صراخ. يكفي أن يتوقف مطمر عن استقبال القمامة، حتى تبدأ العاصمة بالتحلّل على مهلٍ، وتفوح منها روائح الدولة المتعفنة.
أزمة مطمر الجديدة: الحقيقة التي لا تُدفن
عند الساعة الرابعة فجرًا، يوم الثلاثاء الماضي، صدر القرار: مطمر الجديدة لن يستقبل نفايات إضافية. شاحنات شركة رامكو / ألتاس ب، المتعهّدة بجمع النفايات في بيروت والمتن وكسروان، توجّهت كالمعتاد إلى المطمر عند السادسة صباحًا... فوجدته مقفلاً.
لم يكن ذلك مفاجئًا تمامًا، بحسب ما أكّده المدير العام للشركة، وليد ابو سعد، بل كان تطوّرًا متوقّعًا في ظل غياب أي قرار رسمي واضح من الدولة.
يقول ابو سعد في حديث لـ "إيست نيوز": "نحن شركة نتلقى تعليماتنا من مجلس الإنماء والإعمار، الذي أبلغنا أن المطمر وصل إلى أقصى قدرته الاستيعابية، ولا يمكن تفريغ أي كمية جديدة داخله. حينها، أصدرنا بيانًا نعلن فيه توقّف جمع النفايات في كافة المناطق الواقعة ضمن نطاق عملنا، لأنه ببساطة، لم يعد هناك مكان لإفراغ الحمولة."
ثلاثية القرار المعطّل: من المسؤول؟
في بلدٍ تُدار أزماته بالتأجيل والتناسي، لا يبدو أن هناك جهة واحدة تتحمّل المسؤولية بشكل مباشر. ابو سعد يوضح: "لا أعلم إذا كان ما يحدث تقصيرًا أو عجزًا عن اتخاذ القرار. لكن ما هو مؤكد أن المسؤولية موزّعة بين مجلس الإنماء والإعمار، الحكومة، ووزارة البيئة. هؤلاء هم الأطراف المعنيّة بإيجاد مطامر جديدة أو توسيع المطامر الحالية. أما نحن، كشركة، فمهمّتنا هي تنفيذ عمليات الجمع والنقل، وليس تحديد أين تُدفن النفايات."
وهكذا، تجد شركة رفع النفايات نفسها في مواجهة أزمة لا تملك فيها القرار، لكنها تتحمّل نتائجها أمام الرأي العام والمواطن.
أزمة تتكرّر... والبلد "ينتظر قرارًا"
مع توقّف العمل في مطمر الجديدة، تحوّلت شوارع العاصمة وأطرافها إلى ممرات خانقة تُزكِم أنف المواطن. تكدّست النفايات، تفاقم الغضب الشعبي، فيما بقي القرار الرسمي مُعلّقًا بانتظار جلسة مجلس الوزراء، التي كان من المفترض أن تبتّ في مصير المطمر.
ابو سعد يضيف:"إدارة المطمر أبلغت مجلس الإنماء والإعمار أن المطمر ممتلئ، والمجلس بدوره أبلغ الحكومة. ولكن من سيتخذ القرار النهائي؟ لا نعلم. نحن ننتظر، كغيرنا، أن تتحرّك الدولة."
"الحل ليس بيدنا... بل بيد الدولة"
ما حصل في مطمر الجديدة ليس أزمة فجائية، بل نتيجة تراكمات سنوات من التخطيط العشوائي، والصمت المتعمّد عن أزمات البُنية التحتية البيئية. يُشدّد بو سعد:
"الحل لا يمكن أن يكون دائمًا ترقيعيًا. المطلوب قرار جريء من الحكومة لتوسعة المطمر، أو فتح مطامر بديلة. الحل الحقيقي هو اعتماد نظام متكامل لمعالجة النفايات: من الفرز من المصدر، إلى المعالجة، إلى الطمر. ونحن، كشركة، جاهزون للتعاون، لكن لا يمكن أن نستمرّ في جمع النفايات إذا لم يكن هناك مكان لتفريغها."
وبعد ضغط إعلامي وشعبي، عاد مجلس الإنماء والإعمار وأصدر قرارًا مؤقتًا يُعيد فتح المطمر جزئيًا، على أن تُخزّن النفايات مؤقتًا داخل المساحات المتبقية من المطمر الصحي حتى تصدر الحكومة قرارًا نهائيًا. وقد أعلنت شركة رامكو أنها ستستأنف العمل مساء اليوم نفسه، رغم بلوغ المطمر أقصى سعته.
إنها مرآة للدولة
ما يحصل اليوم في مطمر الجديدة ليس سوى تكرار للسيناريو نفسه الذي عاشه اللبنانيون مرارًا. فالنفايات التي تفيض على الطرقات ليست مجرد "أكياس سوداء"، بل هي مرآة سوداء تعكس هشاشة القرار السياسي، والتأجيل المزمن، وغياب التخطيط.
وحتى إشعار آخر... سيبقى المواطن اللبناني يشمّ رائحة العجز في كل زقاق، ويترقّب كل شاحنة قمامة كأنها تنقل مستقبل وطنٍ بأكمله.
×