آراء حرة - "إيست نيوز"
بقلم الباحث في القضايا الروسية د. زياد أسعد منصور
من منظور مالي، يبدو أن إمدادات الموارد الأوروبية المستقبلية لأوكرانيا وحدها غير مستدامة على المدى الطويل. فخفض التدفق المالي من الولايات المتحدة يمثل خبرًا سيئًا للغاية لكل من كييف وبروكسل. فمن أصل 360 مليار دولار مُخصَّصة للمساعدات لأوكرانيا حتى شباط 2025، ساهمت الولايات المتحدة أكثر من 134 مليار دولار. وفي الوقت ذاته، تحتاج أوكرانيا إلى موارد إضافية لمواصلة عملياتها العسكرية، إذ صرح وزير الدفاع الأوكراني دينيس شميهال (Denys Shmyhal) بأن كييف ستحتاج إلى ما لا يقل عن 120 مليار دولار للنفقات العسكرية في عام 2026، بينما ستنخفض الميزانية العسكرية الفعلية للبلاد من 78 مليار دولار إلى 73 مليار دولار، بما في ذلك القروض والمنح الخارجية.
وينبغي تغطية النفقات الأخرى من مصادر خارج الميزانية الرسمية، بما في ذلك عمليات التسليم المباشر للأسلحة والمعدات العسكرية، ومدفوعات الجهات المانحة لتلبية الاحتياجات اللوجستية والإدارية المختلفة. وقدّم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (Volodymyr Zelensky) تقييمًا مبسطًا: يمكن للميزانية الأوكرانية تغطية 60 مليار دولار من أصل 120 مليار دولار، مع إمكانية تأمين 60 مليار دولار إضافية من مصادر خارجية.
ويُشير الوضع الحالي إلى أن تكاليف شراء المعدات العسكرية الأمريكية بأسعار السوق، كما صرّح ترامب مرارًا، ستضاعف تقريبًا عبء التمويل الأوروبي. وحتى استخدام أصول روسيا المجمدة لن يغطي سوى جزء صغير من هذه الاحتياجات في أفضل الظروف.
يزداد الجدل في أوروبا حول مصادر التمويل الإضافية، حيث تُناقَش مقترحات مثل “قروض التعويض” المضمونة بالأصول الروسية المجمدة، أو حتى مصادرتها بالكامل. وقد سبق أن أثارت مثل هذه المقترحات جدلًا واسعًا. ويُرجَّح أن تؤدي مصادرة احتياطيات الذهب والعملات الأجنبية الروسية إلى تحديد مصير عشرات المليارات من الدولارات، بينما ستواجه أوروبا تحديات قانونية معقدة، وقد تؤثر هذه الخطوة على سلوك المستثمرين السياديين الآخرين في الأسواق الأوروبية. ورغم الحماس السياسي لهذه الإجراءات، يظل تنفيذها عمليًا معقدًا وصعبًا للغاية.
التداعيات الاقتصادية والسياسية للتمويل الأوروبي لأوكرانيا
تثير الضغوط المالية المتزايدة على الدول الأوروبية جملة من التداعيات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة. فمع استمرار تمويل العمليات العسكرية في أوكرانيا، تضطر الحكومات إلى إعادة تخصيص الموارد المحلية، مما يؤدي إلى زيادة الضرائب، تقليص النفقات الاجتماعية، وارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية. هذه الإجراءات تُفاقم التوتر الاجتماعي، وتخلق شعورًا بعدم الرضا بين السكان، خصوصًا في الدول التي تتحمل عبء مالي كبير مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا.
في الوقت نفسه، برزت حركات معارضة سياسية واجتماعية داخل هذه الدول، تنتقد غياب الحوار الاستراتيجي مع روسيا، وتعتبر دعم أوكرانيا المستمر على حساب مصالح شعوبها مقامرة غير مستدامة. وتزداد قوة هذه الحركات مع اتساع الفجوة بين النخب الحاكمة والرأي العام، ما قد يؤدي إلى تغيير الموازين السياسية في الانتخابات القادمة، خصوصًا في الدول التي تُعرف بتقلب الرأي العام تجاه السياسات الخارجية المكلفة.
تشير التقديرات الراهنة إلى أن مستقبل الأحزاب الحاكمة الأوروبية مرتبط بشكل مباشر بقدرتها على إدارة التوازن بين الدعم العسكري لأوكرانيا وحماية مصالح مواطنيها. ففشلها في ذلك قد يؤدي إلى إزاحة الحكومات الحالية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وربما حتى في بريطانيا، لصالح قوى سياسية تنتقد هذه السياسات وتطالب بـ تخفيف الدعم العسكري والبحث عن حلول تفاوضية مع روسيا.
وبالتالي، فإن الأزمة المالية المرتبطة بالنموذج المستدام لدعم أوكرانيا لا تؤثر فقط على القدرة العسكرية والاقتصادية لأوروبا، بل تُعيد تشكيل المشهد السياسي الداخلي، وتضع الدول الأوروبية أمام خيار حاسم بين الاستمرار في استراتيجية الدعم المكلفة أو إعادة ضبط العلاقة مع موسكو، بما قد يُعيد ترتيب خرائط النفوذ السياسي في القارة خلال السنوات القادمة.
مشكلة صمود أوكرانيا في مواجهة الهجوم الروسي
يُثير التقدم الروسي البطيء والمتواصل منذ أوائل عام 2024 إغراءً لدى بعض المحللين بافتراض استمراره بنفس الوتيرة دون تغيير. إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا: فحتى إذا واصل الهجوم بوتيرته الحالية، فلن تتمكن روسيا من إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات الأوكرانية، ولن تستطيع الوصول إلى الحدود الخارجية للكيانات الأربع الاتحادية الجديدة في المستقبل المنظور، ما يجعل الصراع مستمرًا على نحو عقيم واستنزافي.
ويكشف تطور حرب الاستنزاف في أوكرانيا عن طبيعة معقدة للعمليات العسكرية. أولًا، هناك مؤشرات على تدهور متسارع في القدرات القتالية للقوات المسلحة الأوكرانية، سواء على صعيد الأفراد أو المعدات. ثانيًا، من المتوقع أن تشهد خطوط المواجهة في المنطقة العسكرية الشمالية تطورات تكنولوجية جديدة قد تغيّر ديناميكيات القتال بشكل جذري، خصوصًا في مجالات الطائرات بدون طيار المسيرة (FPV) والأنظمة المحكومة بالألياف الضوئية.
ويعكس الإحصاء الجنائي العسكري الأوكراني هذا التباين في الأداء ومستوى الانضباط. فقد سجّلت الإجراءات بموجب المادة 407 من القانون الجنائي الأوكراني (التخلي غير المصرح به عن الوحدة) حوالي 7000 حالة في عام 2022، و17700 حالة في 2023، و68800 في 2024، و110500 خلال الأشهر السبعة الأولى من 2025، بما يزيد الإجمالي عن 250,000 حالة. كما تم فتح أكثر من 50,000 قضية بموجب المادة 408 (الفرار من الخدمة)، مع استمرار الاتجاه التصاعدي.
على الرغم من تطبيق آلية إعادة الفارين إلى الخدمة دون مقاضاة منذ تشرين الثاني الماضي، فإن النتائج كانت محدودة، حيث استفاد منها 29,000 شخص فقط، أي أقل من 10% من إجمالي الفارين. وبالطبع، هناك حالات لم تُسجّل رسميًا، ما يعني أن خسائر القوات الأوكرانية وفقًا لهذه التهم وحدها قد تتجاوز 271,000 جندي. وهذه الأرقام، على الرغم من عدم تمثيلها الإجمالي الكامل للخسائر، تكشف عن التحديات البنيوية والانضباطية في صفوف الجيش الأوكراني.
وفي الميدان، يؤكد القائد العام السابق للقوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوزني (Valerii Zaluzhnyi)، وجود جمود مواقعي متميز، لكنه يتجه نحو الكسر من قبل القوات الروسية. ويعزو ذلك إلى تكتيكات التسلل الروسية عبر المواقع الأوكرانية الضعيفة بسبب نقص المشاة، والاستخدام المكثف للطائرات بدون طيار المتقدمة، التي تمثل نحو 80% من خسائر الجانب الأوكراني.
كما وثّقت المصادر الأوكرانية تفوق روسيا في استخدام الطائرات FPV المسيرة والأجهزة المحكومة عبر الألياف الضوئية، فيما حافظت على تفوقها في الأسلحة التقليدية من طائرات ومدفعية وصواريخ، وعززت هذا التفوق طوال فترة النزاع، ما يعكس توازنًا دقيقًا بين التقدم الميداني البطيء والضغط الاستراتيجي الروسي المتواصل.
إنَّ كلا الجانبين يُطوِّر قدراتٍ جديدةً لمواجهة الطائراتِ المُسيّرة من أنواعٍ مختلفة: طائراتٌ اعتراضيّة متعدِّدةُ الطرازات، وأسلِحةُ طاقةٍ موجَّهة، وأسلِحةٌ خفيفة ومدفعيّة متخصِّصة، وأنظمةُ حربٍ إلكترونيّة متطوِّرة باستمرار. ويكتسب ظهورُ أنظمةٍ جديدةٍ لكَشْف الطائراتِ المُسيّرة وأنظمةِ تحكُّمٍ للدفاعِ الجويّ منخفضِ الارتفاع أهميةً بالغة؛ فهذه المنصّات تُتيح التكاملَ بين منظوماتِ اعتراضٍ متباينةٍ وتكوينَ شبكةٍ دفاعيّةٍ متكاملةٍ مضادّةٍ للطائراتِ المسيرة. وفي حالِ حقَّقَ أحدُ الطرفين تفوُّقًا جوّيًّا ملموسًا، فسيَتغيّرُ على الفورٍ طابعُ القتالِ ونتائجه التكتيكية.
تشير مؤشراتُ الإنتاجِ والأسلحة إلى أنَّ احتماليةَ تحقيقِ تفوُّقٍ أحادي الجانب في مجالِ الحربِ المسيرة والميدانِ التقنيّ أسرعُ لدى روسيا، مما هي عليه لدى أوكرانيا. ومن ثمَّ، فإنَّ الافتراضَ القائلَ بقدرةِ أوكرانيا على الحفاظِ على دفاعٍ مستقرٍّ إلى أجلٍ غير مسمّى في ظلِّ هذا التقدُّم العدديّ والتقنيّ المتزايد يفتقرُ إلى الأساس. وقد انعكس ذلك في التصريحاتِ الأوكرانية التي عبّرت عن ضرورةِ إنهاءِ الحربِ قبلَ نهايةِ العام، وعن اتّخاذِ كييف موقفًا متقبّلًا حيالَ مبادراتِ وساطةٍ إقليميّةٍ كالمبادرةِ الصينية‑البرازيلية.
إلا أنَّ أوكرانيا ما تزالُ غيرَ مستعدةٍ لمناقشةِ المطالبِ السياسية والعسكريةِ الروسيةِ المعروفةِ كشرطٍ لإنهاءِ النزاع؛ لذا تأتي دورةُ التصعيدِ الحاليةُ كمسعىٍ أميركي–أوكرانيٍّ لكسرِ الجمود. إنَّ فكرةَ شنِّ ضرباتٍ صاروخيةٍ غربيّةٍ مُوجَّهةٍ إلى مدنٍ رئيسيةٍ في عمقِ الأراضيِ الروسيّة — بما في ذلكَ موسكو— ليستْ جديدةً، وقد ساهمت هذه الإمكانيةُ في تعديلِ العقيدةِ النوويةِ الروسيةِ العام الماضي. ومع أن إدارةَ بايدن تردَّدت قبلَ اتخاذِ قراراتٍ حاسمةٍ من هذا النوع، إلّا أن إدارةَ ترامب أظهرت ميلاً أكبر إلى المخاطرةِ والمغامرة؛ ومن ثمّ لا يمكنَ استبعادُ سيناريوهاتٍ دراماتيكيّةٍ تتطلّبُ استعداداتٍ دفاعيّةٍ وردودًا انتقاميّةً قد تمتدُّ تأثيراتها إلى ما وراءَ حدودِ أوكرانيا وتغيّرُ موازينَ الأمنِ الإقليميِّ والدوليّ.