عاجل:

البساطة خيار شجاع، لا علامة هزيمة... لماذا يتمسّك اللبناني بالمظاهر رغم الانهيار؟ (خاص)

  • ٧٩

خاصّ - "إيست نيوز"

في شوارع بيروت، تختلط الصور كما لو كانت مشاهد من فيلم عبثي: مطعم فاخر يضجّ بالروّاد، وبجانبه بناية غارقة في العتمة بسبب انقطاع الكهرباء.

وعلى بعد أمتار قليلة، حفل زفاف أسطوري يملأ المكان صخباً وبهرجة، بينما الحيّ المجاور يفتقد أبسط مقوّمات العيش من كهرباء وماء ودواء.

هذا التناقض لم يعد يثير الدهشة، بل تحوّل إلى جزء من المشهد اللبناني اليومي. غير أن السؤال الأعمق يظلّ مطروحاً: كيف يستمر اللبنانيون في التمسّك بالمظاهر الفاخرة وسط انهيار اقتصادي ومعيشي غير مسبوق؟

المظاهر كآلية دفاع نفسي

تَشرح الدكتورة ميرا زهوي، المُعالجة النفسية العيادية، في حديث لـ "إيست نيوز" فتقول: "من الناحية النفسية، التمسّك بالمظاهر الفاخرة في زمن الأزمة هو آلية دفاعية، كأنّ الشخص يُحاول أن يحافظ على صورة اجتماعية تعطيه شعوراً بالثبات والكرامة رغم الانهيار من حوله. الاستعراض يصبح نوعاً من إنكار للواقع ووسيلة ليقول: ما زلت قادراً، وما تغيّر شيء".

هذا التفسير يفتح الباب لفهم أعمق: الاستعراض ليس مُجرّد ترف، بل مُحاولة نفسية للهروب من مواجهة الانكسار اليومي.

وفي بعض الحالات، يمكن أن يتحوّل هذا التمسّك بالمظاهر إلى نوع من الإدمان الاجتماعي النفسي؛ إذ يشعر الفرد بأنه يحتاج إلى تأكيد مُستمرّ لقيمته أمام الآخرين، حتى لو كان ذلك على حساب صحته المالية والنفسية.

انعكاس اجتماعي لأزمة أعمق

يشرح أستاذ علم الاجتماع جواد الأسمر فيقول: "بعد تآكل الطبقة الوسطى، لجأ اللبنانيون إلى الاستعراض كتعويض. فالمنصّات الرقمية جعلت الواجهة أهم من الحقيقة. في مُجتمع يقدّس المظاهر، لا أحد يجرؤ على إعلان بساطته، لأن التواضع لم يعد قيمة اجتماعية مُكرّسة".

ويُضيف: "وسائل التواصل حوّلت الحياة إلى مسرح كبير. قيمة الفرد لم تعُد بما يملك فعلاً، بل بما يُظهره للآخرين. لذلك، لا غرابة أن ترى من يقترض المال ليظهر بمظهر ميسور، ولو لليلة واحدة".

كما يشير الأسمر إلى أن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على فئة عمرية مُحدّدة، بل تشمل الشباب والكبار على حد سواء. فالضغط الاجتماعي والرقمي يجعل من الاستعراض لغة للبقاء في المجتمع، لا مجرد تسلية أو استعراض سطحية.

بين الحاجة والتمويه

في مقهى صغير في الأشرفية، يجلس سامي (موظّف في شركة خاصّة)، فيقول: "أعمل بوظيفتين فقط لأستطيع دفع الإيجار والفواتير. لكن في المساء، أرتدي أجمل ما عندي وأخرج. أحتاج أن أشعر أنّني ما زلت أعيش، أنني لست مهزوماً".

ويُضيف بابتسامة مُتعبة: "الناس لا ترحم. إذا ظهرت بشكل فقير، يُعاملك الآخرون وكأنك بلا قيمة. أحياناً المظهر يفتح لك أبواب عمل أو فرصة جديدة. لذلك أستدين لأشتري ما يجعلني أبدو أفضل".

أما ليلى، طالبة جامعية، فتقول: "على إنستغرام، الجميع يبدو سعيداً ومُرتاحاً. لا أريد أن أكون الاستثناء. حياتي الحقيقية صعبة، لكن الصور تعطيني وهماً بأنّني لست أقل من غيري".

وفي هذا السياق، يشير العديد من الشباب إلى أن المنافسة على منصات التواصل الاجتماعي أصبحت جزءاً من حياتهم اليومية. فالظهور بمظهر النجاح والراحة، حتى ولو كان مؤقّتاً أو زائفاً، أصبح ضرورياً للحفاظ على شعورهم بالانتماء والقبول بين أصدقائهم ومُتابعيهم.

هل المظاهر خلاص أم فخّ؟

التمسّك بالمظاهر قد يمنح اللبناني شعوراً مؤقّتاً بالسيطرة وسط الانهيار، لكنه في الوقت نفسه يُضاعف الهُوّة بين الواقع وما يُعرض للعيون. هنا يطرح السؤال نفسه: هل يُساعد هذا القناع على النجاة، أم يعيق مواجهة الحقيقة؟

وقد يرى بعض الخُبراء أن الإفراط في الاستعراض يمكن أن يؤدي إلى تزايد الإحباط والاكتئاب عندما يكتشف الفرد أن حياته الحقيقية لا تتوافق مع الصورة التي يعرضها، ما يجعل التوازن النفسي هشّاً للغاية.

في النهاية، قد يكون الوقت قد حان لإعادة تعريف "الكرامة" بعيداً عن الحقائب الفاخرة والسيارات المُستوردة. فالكرامة لا تأتي من مظهر عابر، بل من القدرة على الاعتراف بالواقع والعمل على تغييره. فهل يَتصالح اللبناني يوماً مع البساطة كخيار شجاع، لا كعلامة هزيمة؟

المنشورات ذات الصلة