خاصّ - إيست نيوز
جوي ب. حداد -
في وطنٍ يُفترض أن يكون غنيّاً بالينابيع والأنهار، صار الماء فيه سلعة تُشترى بالدولار.
فبعدما جفّت صنابير الدولة وغابت المشاريع عن التنفيذ، يجد اللبناني نفسه اليوم أسيرًا لشركات تعبئة مياهٍ خاصّة، بعضها يعمل بلا ترخيص ولا يراعي أدنى المعايير الصحيّة.
وعلمت "إيست نيوز" أنّ ملفّ هذه الشركات باتَ مُكتملاً لدى أحد الأجهزة الأمنية المعنية بشؤون المواطنين، تمهيداً لبدء الاستدعاءات والتحقيقات، بعدما تبيّن أن عدداً كبيراً منها يفتقر إلى الشروط القانونية والصحيّة.
لكنّ القصة، في عمقها، أبعد من ملفّّ إداري... إنها حكاية بلدٍ عطِشٍ إلى الإدارة قبل الماء.
مياه الدولة: ملوّثة ومهترئة
منذ سنوات، تحوّلت مياه الدولة إلى هاجسٍ لدى اللبنانيين. يقول سامي ش.، موظّف في الأربعين من عمره من سكان بيروت، في حديثٍ لـ "إيست نيوز":
“لم أشرب من مياه الدولة منذ أكثر من خمس عشرة سنة. لونها مُتغيّر، ورائحتها غريبة. حتى الغسيل لم يعد مُمكنًا بها.”
تؤكّد مصادر بيئية لـ "إيست نيوز" أنّ شبكات المياه الرسمية مُهترئة في معظم المناطق، وأنّ “تسرّب مياه الصرف الصحي إلى أنابيب الشفة باتَ شائعاً في بعض الأحياء”، مُشيرةً إلى أنّ “غياب الصيانة الدورية وقدم القساطل جعلا من مياه الدولة غير صالحة للشرب إطلاقًا”.
في بلدٍ تفيض أرضه بالينابيع، تُضخّ المياه الآسنة في البيوت، فيما المواطن مضطر لشراء المياه المعبّأة بحثاً عن حياةٍ نظيفة في زجاجة بلاستيكية.
قناني بلا رقابة: ومستهلك بلا خيار
على الطرق الفرعية، تنتشر محطات تعبئة المياه كالفطر. خزان أزرق، وأنابيب بسيطة، وفلاتر صغيرة تُقدَّم على أنّها “نظام تعقيم حديث”.
تقول منى د.، وهي ربّة منزل من المتن، لـ "إيست نيوز": “نشترك مع شركة تعبئة محليّة. ندفع عشرة دولارات أسبوعيًا مقابل أربع قناني. لا نعرف مصدر المياه، لكن لا خيار آخر أمامنا. مياه الدولة لا تُشرب، والفلاتر المنزلية لم تعد تجدي نفعاً.”
في المُقابل، يعترف أحد أصحاب المحطات – فضّل عدم الكشف عن اسمه – بأنّ “كثيرين دخلوا هذا المجال من دون تراخيص أو رقابة”، مُضيفاً:
“نحن نحاول الالتزام بالمعايير، لكن هناك من يملأ القناني بمياه الصنبور ويبيعها على أنها نقيّة. السوق فوضوي تمامًا، ولا أحد يراقب أحداً.”
وبحسب معلومات "إيست نيوز"، فإنّ الأجهزة الأمنية ستُباشر استدعاء عدد من أصحاب الشركات بعد ورود تقارير صحية تُظهر وجود مخالفات خطيرة في عمليات التعقيم والتخزين والنقل.
الإشتراك بالدولار: والعطش بالوراثة
مع الإنهيار الإقتصادي، تحوّلت المياه أيضاً إلى عبء مالي ثقيل. فالاشتراك السنوي للمياه في عدد من المناطق بات يبلغ 180 دولاراً أميركياً للعيار الواحد، في وقتٍ يعجز فيه آلاف المواطنين عن دفع هذا المبلغ.
يقول أبو جورج، مُتقاعد من سكان الجديدة، لـ "إيست نيوز": “كنت أدفع إشتراك المياه بالليرة، واليوم يطلبون 180 دولاراً. هذا غير اشتراك الكهرباء والمولّد والمياه المعبأة. لم يعد أحد قادراً على تحمّل هذه الأعباء.”
أمام هذا الواقع، يلجأ المواطنون إلى شراء المياه “بالغالون” أو “بالصهريج”، فيتحوّل العطش إلى تجارة مُزدهرة، تُدرّ أرباحاً طائلة على بعض التجّار، فيما تُفرغ جيوب الناس من آخر ما تبقّى فيها.
تحرّك أمني وتنظيم مرتقب
مصدر أمني أكّدَ لـ "إيست نيوز" أنّ “التحقيقات في ملفّ شركات تعبئة المياه بلغت مرحلة مُتقدّمة وتشمل مؤسّسات كبيرة وصغيرة على مختلف الأراضي اللبنانية”، موضحاً أنّ “الهدف ليس إقفال الشركات بل تنظيم القطاع وحماية المواطن من الاستغلال.”
وأشارَ المصدر إلى أنّ “الاستدعاءات ستبدأ خلال الأيام المقبلة بالتنسيق مع الجهات القضائية المُختصّة، وقد تُفرض عقوبات وغرامات على المؤسسات المخالفة، مع إمكانية إقفال بعضها مؤقتاً إلى حين تصحيح أوضاعها.”
بين الدولة والخاصّ: ضياع الثقة بالماء
في غياب الرقابة الرسمية وتراجع الثقة بمؤسسات الدولة، يعيش اللبنانيون بين خيارين أحلاهما مُرّ: مياه ملوّثة من الصنبور، أو مياه مجهولة المصدر في القناني.
خبير بيئي لـ "إيست نيوز":
“لبنان ليس فقيراً بالمياه بل بالإدارة. لدينا ثروة مائية ضخمة، لكن سوء التخطيط والفساد والإهمال دمّروا الشبكات العامة. المواطن يدفع ثمن الماء مرتين: مرةً عندما يشتريه، ومرةً عندما يتضرر من تلوّثها.“
أزمة المياه في لبنان ليست أزمة موارد بل أزمة ضمير. بلد الأنهار يعيش العطش، وبلد الينابيع يشتري ماءه بالدولار. وبين فوضى الشركات الخاصة واهتراء أنابيب الدولة، يتحوّل الماء من رمز للحياة إلى عنوانٍ للمهانة.
ومع اقتراب فتح الملف أمنياً، يبقى الأمل أن تتحوّل هذه الخطوة إلى بداية إصلاحٍ حقيقي، لا إلى مشهدٍ عابر في مسرح الأزمات اللبنانية.
إلى أن يحصل ذلك، سيبقى اللبناني يفتح صنبوره فيجد ماءً لا يُشرب، ويشتري من الأسواق قنينة لا يُطمأن إليها - في مُفارقة تختصر تماماً مأساة هذا الوطن.
بلدٌ على البحر… يموت من العطش
فهل يُعقل أن يموت اللبناني عطشاً فوق أرضٍ تفيض بالماء، فيما يروي الفساد نفسه من ينابيعنا، ونرتشف نحن الغشّ بدل العدالة… إلى متى سنبلع الصمت في وطنٍ بلا شربة كرامة؟