خاص – "إيست نيوز"
في الثاني والعشرين من أيلول عام 2024، أسدل القضاء اللبناني الستار على فصل طال انتظاره، بإصدار مذكرة توقيف بحق حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، بعد مسيرة استمرت أكثر من ثلاثة عقود في قلب المنظومة المالية. وجاء القرار إثر ملاحقات داخلية ودولية تتهمه بـ”اختلاس أموال عامة وتبييض أموال وهدر المال العام”، وهي الاتهامات التي جعلت اسمه رمزاً للجدل بين من يراه مهندس الاستقرار النقدي، ومن يحمّله مسؤولية الانهيار الاقتصادي التاريخي.
ظل سلامة موقوفاً نحو ثلاثة عشر شهراً في مستشفى “بحنّس”، قبل أن يُفرج عنه مساء الجمعة في العاشر من تشرين الأول 2025، إثر دفع كفالة مالية ضخمة بلغت 14 مليون دولار أميركي نقداً وخمسة مليارات ليرة لبنانية، بقرار من الهيئة الاتهامية في بيروت.
صفقة الكفالة… صفحة جديدة أم ثغرة في العدالة؟
ما إن أُعلن عن تسديد الكفالة حتى غمر الجدل الأوساط السياسية والقضائية، ليس فقط لحجم المبلغ، بل لأن سلامة دفع المبلغ نقداً — وهو ما أثار تساؤلات عن مصدر هذه الأموال، وعن مدى قانونية قبولها ككفالة في قضية ترتبط أساساً بتبييض الأموال.
خرج وكيل الدفاع عنه، المحامي مارك حبقة، ليعلن من أمام مستشفى "بحنّس" أن “خروج سلامة هو بداية صفحة جديدة في المحاكمة التي أحاطتها التلفيقات”، مؤكداً أن موكله “سيسلّم أدلة تكشف المتورطين الحقيقيين في الجرائم المالية التي أدت إلى الانهيار الاقتصادي”.
لكن حبقة لم يخفِ اعتراضه القانوني على القرار، إذ اعتبر أن “المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية” لا تجيز مثل هذا الإجراء، واصفاً القرار بأنه “اجتهاد خطير يمسّ بحرية أي موقوف احتياطياً”، مع تأكيده احترام القضاء وتنفيذه القرار “تمهيداً للطعن به لاحقاً”.
14 مليون دولار نقداً… من أين جاء المال؟
القضية لم تتوقف عند الإفراج، بل بدأت من هناك. فوفقاً للمعلومات المتوافرة، توجه رئيس المباحث الجنائية المركزية العميد نقولا سعد إلى المستشفى فور تسديد الكفالة للتحقيق في مصدر الأموال.
صرّح سلامة في التحقيق بأن الأموال “جهزها” المصرفي مروان خير الدين، رئيس مجلس إدارة بنك الموارد. وهنا بدأت خيوط جديدة تُنسج في الملف، إذ استدعت النيابة العامة التمييزية خير الدين للتحقيق في الثامن من تشرين الأول، واستجوبه القاضي جمال الحجار قبل أن يتركه رهن التحقيق.
وبحسب مصادر قضائية كما تم الإعلان عنه، أفاد خير الدين أن المبلغ تأمّن بعد أن رهن سلامة ثلاث عقارات لصالح شركة استثمارات عقارية يملكها خير الدين تدعى “MAWARED PROPERTIES”، وهي شركة شقيقة لبنك الموارد تُعنى بشراء العقارات ذات المشاكل القانونية وإعادة تسويتها.
المثير أن هذه العملية تمت خلال 24 ساعة فقط، إذ حُددت قيمة الكفالة يوم الجمعة 25 أيلول، وسددت صباح اليوم التالي — أي بسرعة غير مألوفة في ملفات بهذا التعقيد.
النيابة العامة بين الشكّ والتحقيق
النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار، أمر بالتحقق من مصدر الأموال كإجراء روتيني، بحسب ما أوضح وكيل سلامة، إلا أن التحقيقات لم تغلق بعد. وبقيت التساؤلات معلّقة:
هل الأموال تعود فعلاً لسلامة؟ أم مصدرها من مصرف الموارد؟ أم من تحويلات خارجية؟
وهل تم رهن العقارات بقيمة أقلّ من السوق لتسهيل تمرير الصفقة؟
حتى اللحظة تشير مصادر قضائية إلى أن خيرالدين ما زال رهن المراجعة، فيما لم تصدر النيابة العامة التمييزية بياناً حاسماً حول شرعية المبلغ أو مصدره الفعلي.
غادة عون: الكفالة المشبوهة تهدد سمعة لبنان
على منصة (X)، علّقت النائبة العامة الاستئنافية السابقة في جبل لبنان القاضية غادة عون بحدة على ما حدث، قائلة: “كيف يمكن القبول بإخلاء المتهم رياض سلامة بكفالة ناتجة عن تبييض أموال؟ هذا خطير جداً لأنه يقضي نهائياً على سمعة لبنان ومصداقيته تجاه المجتمع الدولي، وعلى سمعة القضاء.”
وأضافت أن الأموال المسددة “من المرجح أو شبه المؤكد أنها ناتجة عن أموال غير مشروعة”، مرجحة أربعة سيناريوهات لمصدرها: أموال اختلسها سلامة خلال ولايته من مصرف لبنان، أموال مودعة في أحد المصارف اللبنانية بطريقة غير مشروعة. أموال من حسابه في مصرف لبنان نفسه، وهو ما يُعدّ فاضحاً إن ثب،. أو أموال محولة من الخارج بطرق غير قانونية.
قلب عبء الإثبات: من يدافع عن النقود؟
في تعليقٍ قانوني نشره، أشار القاضي السابق جان طنوس إلى أن قانون مكافحة تبييض الأموال في لبنان يحوّل عبء الإثبات إلى الشخص المعني، أي على من يدفع الأموال أن يثبت مشروعيتها. وبالتالي، كان من المفترض أن يُفتح تحقيق رسمي فور تسديد المبلغ لمعرفة مصدره، إذ لا يمكن قانوناً قبول كفالة مصدرها مشبوه، لأن ذلك يجعلها “عوائد جرمية” لا يجوز استعمالها في معاملات قضائية.
ويرى طنوس أن “ما جرى يفتح باباً خطيراً على مصداقية الدولة اللبنانية أمام المجتمع الدولي، لأن الرسالة التي تُرسلها العدالة في هذه الحالة هي أن المال يمكن أن يطهّر صاحبه من الاتهام.”
بين سلامة وخيرالدين… صداقة أم صفقة؟
العلاقة بين الرجلين ليست جديدة. فخير الدين كان أحد المدافعين العلنيين عن سياسات مصرف لبنان في السنوات الماضية، كما واجه بدوره اتهامات فرنسية عام 2023 في ملف مشابه يتعلق بـ”تسهيل اختلاس المال العام وتبييض الأموال”، قبل أن يُفرج عنه في باريس بكفالة ويعود إلى بيروت.
ولذلك، يطرح المراقبون سؤالاً معلّقاً: هل ما فعله خير الدين هو موقف “الصديق وقت الضيق”، أم أن ما خفي من مصالح مالية متشابكة أعظم؟
ما بعد الإفراج… إلى أين؟
خروج رياض سلامة من المستشفى لم يكن نهاية القصة، بل بدايتها الجديدة. فقد منعته النيابة العامة المالية من السفر لمدة عام كامل، إلى حين استكمال التحقيقات في ملفاته المالية في لبنان والخارج، بينما يتهيأ فريق دفاعه لتقديم طعون قضائية في مسار الملاحقة.
وفي المقابل، تتجه الأنظار نحو القضاء الأوروبي، لا سيما الفرنسي والسويسري، اللذين لا يزالان يلاحقان سلامة في قضايا مشابهة تتعلق باختلاس مئات ملايين الدولارات من أموال مصرف لبنان وتحويلها إلى الخارج.
خاتمة: العدالة على مفترق المسارات
في بلد أنهكته الفضائح المالية والسياسية، تبدو قضية رياض سلامة اختباراً حقيقياً لجدية القضاء اللبناني. فهل يملك هذا القضاء الشجاعة لاستكمال التحقيق إلى نهايته، مهما كانت الأسماء والضغوط؟
أم سيبقى لبنان أسير معادلة المال فوق القانون، والرموز فوق المساءلة؟
حتى اللحظة، يبقى المشهد بين العدل والمحاباة، بين القضاء والقدَر، وبين من يقول إن سلامة ضحية انهيار عام، ومن يراه أحد صانعيه.
لكن الأكيد أن مبلغ أربعة عشر مليون دولار نقداً سيبقى، في ذاكرة اللبنانيين، أكثر من مجرد كفالة… بل رمزاً لصراع بلدٍ ما زال يبحث عن عدالته المفقودة.