خاص - "إيست نيوز"
في بلدٍ يرزح تحت أعباء الأزمات ويبحث عن بارقة أمل للإصلاح، تطفو إلى السطح مفارقة تثير التساؤل: كيف يمكن لأشخاصٍ مدرجين على لوائح العقوبات الدولية أن يتحضّروا لخوض الانتخابات العامّة؟
وكيف يُسمح لمن تُلاحقهم شبهات الفساد أو تبييض الأموال بأن يرفعوا شعار “الإصلاح والتغيير” وكأن شيئًا لم يكن؟
بين العقوبات والاقتراع: تناقض فجّ
في الدول التي تقدّس الشفافية، يُعدّ السجلّ الشخصي شرطًا أساسيًا للترشّح، ويُمنع أي شخص يواجه عقوبات مالية أو قضائية من دخول المعترك الانتخابي حفاظًا على سمعة الدولة وثقة الناخبين.
أما في لبنان، فالصورة مقلوبة؛ فالعقوبات لا تمنع الترشّح، والمُحاسبة تخضع لتوازنات السياسة والطوائف. هكذا يُفتح الباب أمام شخصيات متهمة بالفساد لتخاطب الناس باسم “التغيير”، فيما كان دورها الأساس في تعطيل هذا التغيير نفسه.
تعميم العدل بين القانون والسياسة
أحدث تعميم وزير العدل الأخير جدلًا واسعًا بعدما ألزَمَ كتّاب العدل بالتحقّق من أن الأطراف غير مُدرجين على لوائح العقوبات الوطنية أو الدولية قبل تصديق أي مُعاملة.
خطوة اعتبرها البعض ضرورية أخلاقياً لكنها ملتبسة قانونيًا، إذ رأى فيها خبراء القانون تجاوزًا للصلاحيات ومساساً بحقّ الترشّح الذي يكفله الدستور اللبناني.
وبينما اعتبر مؤيّدو القرار أنه يمهّد لمرحلة جديدة من المساءلة، رأى معارضوه أنه يحمل خلفيات سياسية وانتقائية في التطبيق، ما يجعله أداة ضغط أكثر منه إصلاحاً فعلياً.
واشنطن والعقوبات: ورقة ضغط أم أداة إصلاح؟
تفرض وزارة الخزانة الأميركية، عبر مكتب مُراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، عقوبات على شخصيات لبنانية متهمة بالفساد وتمويل الإرهاب، وتشمل هذه الإجراءات تجميد أصول، حظر تعاملات مالية، وملاحقة أي جهة تتعامل مع الأسماء الواردة على اللوائح.
غير أن السؤال الجوهري يبقى: هل يستطيع بلد يعتمد اقتصاده على الدولار ومصارفه على النظام المالي الأميركي أن يتجاهل هذه العقوبات من دون أن يدفع الثمن؟
الواقع يقول لا. فكل مصرف أو مؤسسة مالية تتعامل مع شخصٍ خاضع للعقوبات تُعرّض نفسها تلقائيًا للعقوبة أو العزل المالي، ما يجعل الامتثال شبه إلزامي حتى من دون نص قانوني محلي.
المرشّح المعاقَب: تناقض أخلاقي قبل أن يكون قانونياً
عندما يترشّح من تطاله العقوبات، يصبح التحدي أخلاقياً قبل أن يكون قانونياً. فكيف يمكن للناخب أن يمنح صوته لمرشّحٍ متهم بتبييض الأموال أو الفساد الإداري؟ وكيف يصدّق وعود “الإصلاح” ممن ساهموا في الإنهيار؟
إن مُشاركة هؤلاء في الاستحقاق الديمقراطي تُفرغ العملية الإنتخابية من معناها الحقيقي، وتحوّلها إلى وسيلة لإعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها التي أفقدت الدولة هيبتها ودمّرت مؤسّساتها.
بين العدالة والمُحاباة: ازدواجية قاتلة
القضية هنا لا تتعلّق فقط بالحق في الترشّح، بل بمفهوم العدالة ذاته. فحين تُطبَّق القوانين على فئة وتُستثنى أخرى، تُفرغ العدالة من مضمونها وتتحوّل إلى أداة انتقائية.
إن ازدواجية المعايير هذه تُقوّض الثقة بالمؤسسات وتُضعف قيم الدولة، وتجعل المواطن يشعر أن النزاهة باتت عبئًا في وطن يكافئ المتورّطين ويُقصي المستقيمين.
سؤال إلى ضمير الوطن
إذا كان من تطالهم العقوبات الدولية يستطيعون خوض الانتخابات ورفع شعار “مُحاربة الفساد”، فماذا تبقّى من مصداقية الدولة؟
وهل يمكن لوطنٍ يساوي بين المتهم والنزيه أن ينهض فعلًا من أزماته، أم أننا نعيد انتخاب سقوطنا... في كل مرّة، عبر صناديق اقتراع جديدة؟