عاجل:

أميركا للبنان: وقف العداء لا الحرب فـقط!

  • ١٩

كنب ابراهيم الامين في جريدة "الاخبار":

«المفاوضات المباشرة، ولا شيء غير المفاوضات المباشرة»!

باختصار، هذه هي خلاصات أسبوع الرسائل الدبلوماسية والأمنية إلى لبنان. الفكرة ليست عصيّة على الفهم. وتوم برّاك، الذي يبدو مُستفِزاً للناس هنا، يقول الأمور كما هي. هو يشرح بأن ما يقوله، ليس سوى ما يسمعه في واشنطن وفي تل أبيب. لكنّ برّاك، لا ينفي، أنه شخصياً كان يتأمّل الكثير من محاولاته في بيروت. فالرجل مُحبط جداً إزاء ما يصفه بـ«الهراء» الموجود لدى القادة في لبنان، وهذا ما يجعله يرفع الصوت ولو بطريقة تُزعِج اللبنانيين...

من اللافت، أن برّاك يسعى كل الوقت إلى تمييز الرئيس نبيه بري عن بقية المسؤولين. قال كلاماً مُعيباً بحق الآخرين، من الموجودين في الحكم أو خارجه. لكنه تحدّث عن بري بطريقة مختلفة. تماماً كما فعل السيناتور الأكثر صهيونيةً ليندسي غراهام، عندما قال لصديق له بعد زيارته الأخيرة إلى لبنان، إنه يوافق برّاك على رأيه، وإنه يوجد فقط نبيه بري من يمكن التحدّث معه.

الاهتمام الأميركي برئيس المجلس، لا علاقة له بتقييم أميركا لموقفه من أصل الصراع. لكنّ رجال الصفقات الذين كلّفهم دونالد ترامب بالمهام الشاقّة، ينطقون بما يفترضون أنه مناسب لخطة العمل. وهو ما قاله برّاك: «بري أكثر سياسيّي لبنان خبرة. لديه معرفة جيدة بكيفية صناعة القرار في الغرب، والأهم، أنه الوحيد الذي تحاوره، وكأنك تتحدث مباشرة مع حزب الله. وهو صريح، يقدّم الأجوبة الحاسمة في كثير من الأحيان، وفي مرات عدة، تفهم أنه يحتاج إلى وقت من أجل تسليم جواب واضح».

لكنّ برّاك، وكذلك غراهام، وكذلك الآخرون، لا يجيبون عن سبب تعثّر مساعيهم مع الجانب الآخر من المعادلة. هم يكرّرون معزوفة أن إسرائيل هي الطرف الأقوى في المعادلة، فهي من انتصر في الحرب الأخيرة على لبنان وسوريا، ولن يكون هناك من يقدر على الضغط عليها من أجل مراعاة أحد، لا في دمشق ولا في بيروت. حتى إن مورغان أورتاغوس، تشرح أيضاً: «الآن، لديكم فرصة خاصة، كون الرئيس ترامب يملك تأثيراً على القيادة في إسرائيل، وبالتالي، استخدموا هذه الفرصة، لكن عليهم تقديم الأوراق أولاً، وهذا لا يكون إلّا من خلال المفاوضات».

عند هذه النقطة، يعود الجميع إلى أصل المشكلة. وفي بيروت، لم يكن الرئيس جوزيف عون يرتدي الحزام الناسف عندما طلب إلى قائد الجيش التصدّي لتوغّلات قوات الاحتلال. بل كان، يختار لحظة تناسبه، للاحتجاج على الضغوط الأميركية غير المتوقّفة عليه. ربما نجح في استغلال اللحظة ليصرخ في وجه الأميركيين: أعطوني شيئاً أقدر على استثماره من أجل إنجاح المفاوضات. وهم لا يردّون عليه، وكلّما حاول المناورة معهم، يعودون إلى تذكيره: لقد تعهّدت لنا، وتعهّدت للسعودية أيضاً، قبل شهر من انتخابك، بأنك تحتاج إلى ثلاثة أشهر فقط، حتى تنجز خطة حصر السلاح. وها قد مرّت المهلة، وأعطيناك مهلة ثانية، ولم تفعل شيئاً... وفوق ذلك، تطلب من الجيش مساعدة حزب الله بدل نزع سلاحه؟

طبعاً، لن نجد من هو مسرور بحال أهل الحكم أكثر من أنصار الولايات المتحدة. في بيروت، يقود سمير جعجع الدفّة بحذر شديد. هو يرفع الصوت تدريجياً ضد الرئيس عون، وقرّر أن يدخل في معركة مع الرئيس بري، ومع أنه يعتبر نفسه في تحالف مع الرئيس نواف سلام، إلا أنه بات يجد صعوبة في الاستمرار بالحكومة. ولو سمحت له السعودية لاستقال منها قبل شهرين على الأقل. لكنّ جعجع، الذي يستعدّ للانتخابات – حتى ولو لم تحصل – لا يجد عنواناً يفيده في تعبئة الشارع، إلا العودة إلى نغمة سيطرة أو إعاقة حزب الله لبناء الدولة.

ثم، لديه سلاح آخر يحتاج إليه في الشارع المسيحي، بالقول، إن جوزيف عون يسير على خطى ميشال عون، ولا يريد مواجهة حزب الله ولا مواجهة الآخرين. لكنّ جعجع الذي لم يُخفِ موقفه من الحرب الإسرائيلية على لبنان حتى قبل توسّعها، يعاود الكرّة الآن، ويتولى مهمة التهديد، بأننا مقبلون على حرب حاسمة هذه المرة. وما يقوله جعجع، هو تكرار لقول كل حلفاء أميركا خلال الأشهر الثمانية الماضية: ما كان على إسرائيل أن توقف الحرب في تشرين الثاني الماضي، كان عليها مواصلة الضغط ولو فعلت ذلك، لكان سلاح حزب الله معروضاً للبيع الآن!

لكن لجعجع حلفاء ولو لم يجلسوا معه على الطاولة نفسها. ففي واشنطن، يجلس أنطون الصحناوي، مع أركانه. يخطّط في كيفية تعزيز الضغط على الحكم في لبنان من أجل القيام بكل ما يقود إلى «فرط» حزب الله. المصرفي الذي يقاتل لأجل إعادة إنعاش القطاع المصرفي كما كان عليه قبل الأزمة، يضع اليوم كل بيضه في سلة إسرائيل. وهو أيضاً، يكرّر تجربة والده قبل 43 عاماً، عندما كان في استقبال قوات العدو التي وصلت إلى بيروت، وأعطاها مكتب التمثيل الأول لها في ضبية.

لكنّ أنطون اليوم، يقول، إنه لا يقدر على العودة إلى لبنان خشية أن يقتله حزب الله، لكنه يعد أنصاره والمحبّين، والضيوف الذين يهتم لأمرهم حين يزورون واشنطن، بأنه عائد أكيداً إلى لبنان، لكنه سيدخل إلى لبنان عبر حدوده الجنوبية، وسيقود سيارته من حيفا باتجاه بيروت. لكنّ أنطون، مثل جعجع، لا يهتم فقط بالجانب العسكري، فهما من طينة واحدة، وهي تعمل وفق برنامج أساسه، أن مهمة نزع السلاح، هي من اختصاص أميركا وإسرائيل فقط، وأن الجيش اللبناني سيكون قادراً فقط على تنظيف المسرح بعد توقّف الحرب.

اهتمام جعجع والصحناوي يتركّز على سبل مواجهة الجسم السياسي والمدني لحزب الله. لقد هالهما، كيف أن حزب الله وقف على قدميه بعد الحرب القاسية. وكيف أن قاعدته أعادت تفويضه مجدداً، مُعلِنة التزام خيار المقاومة، ثم كانت الصدمة في أن الحزب أعاد ترتيب أموره المدنية. فمؤسساته التربوية والصحية والخدمية تعمل دون توقف. الرواتب الشهرية تُصرف للعناصر والعاملين في المؤسسات.

ولديه وحدة خاصة، أدارت إنفاق أكثر من مليار دولار في أقل من سنة على نحو نصف مليون متضرّر من الحرب الإسرائيلية. وفوق ذلك، فإن حزب الله يصرّ على تنظيم احتفالات حاشدة، فلا يتأثّر باكتشاف شبكة عملاء كانت تخطّط لتفجير الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاستشهاد السيد حسن نصرالله، ثم يصرّ في وقت لاحق، على حشد نحو مئة ألف نظّموا وشاركوا في احتفال كشفي في المدينة الرياضية. وبينهما، خوضه تحدّياً في وجه الحكومة من خلال احتفال صخرة الروشة.

بالنسبة إلى جعجع والصحناوي، ومعهما حشد من القيادات والقوى اللبنانية، فإن الأولوية الخاصة بنزع السلاح، تفرض بالتوازي على أميركا وإسرائيل العمل على الملف المدني أيضاً. ويمارس الصحناوي كل الألاعيب القذرة عبر شبكته في مصرف لبنان ورجالاته في الإعلام والسياسة. فيما يلاقيه جعجع في منتصف الطريق برفع شعار تحييد لبنان.

عند هذه النقطة، يعود الجميع مرة واحدة إلى عنوان الرسالة الأميركية المفتوحة: حان الوقت لتدخلوا في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل؟

أحد كبار زوار بيروت، قال، إن الطرح الأميركي يستند إلى عناصر كثيرة، أهمها أن «برنامج السلام» الذي يقوده الرئيس ترامب، يشمل لبنان. ولكن على لبنان معرفة أن الخطوة الأولى، تكون في إقدامه ليس على الاعتراف بإسرائيل خلافاً لقوانينه. فهذا أمر واقع وقائم. بل أن يدخل المفاوضات، من أجل التوصل إلى حل مؤقّت، عنوانه، إلغاء أسباب التوتر على الحدود.

وفي الشرح، لا يحتاج الزائر إلى كثير من الكلام، ويُنقل عنه قوله: «بالنسبة إلى الأميركيين، فإن تجربة سوريا لها حساباتها الأخرى. في لبنان، لا تريد إسرائيل منح أي فرقة لبنانية امتيازات خاصة. لقد تعلّمت من تجاربها السابقة. لكنها، تريد أن تقرّ الحكومة اللبنانية بمبدأ التفاوض السياسي المباشر، ثم تقبل بتوقيع اتفاق أمني – سياسي – عسكري، يقوم أولاً على إعلان لبنان إنهاء حالة العداء مع إسرائيل. وبعدها تكون الأمور أكثر سهولة في التنفيذ.

الفكرة بحسب مداولات أخرى، تبدو مطابِقة لما يطرحه توم برّاك. فتجربته في دمشق، تقول، إن القيادة السورية الجديدة، لم تعد في حالة حرب مع إسرائيل. وإن الأمر لا يتعلق بوقف الأعمال الحربية أو العدائية، بل بإنهاء حالة العداء.

في حالة لبنان، يفهم الأميركيون أن تحقّق هذا الهدف، يعني أن جميع السلطات في لبنان، تشريعية كانت أو تنفيذية أو سياسية أو حتى اجتماعية، أو عسكرية وأمنية، سوف تنتقل من مرحلة الحرب إلى مرحلة التعايش مع إسرائيل. وهذا يعني، أنه لن يكون هناك أي مبرّر، سياسي أو قانوني أو حتى أمني لوجود شيء اسمه مقاومة.

طبعاً، يُغدِق الأميركيون الوعود مع هذه السردية، من خلال ما يكرره توم برّاك بأنّه بمجرد انتهاء حالة العداء، فإن إسرائيل ستقبل باتفاق أمني يفرض وقف هجماتها والانسحاب من النقاط التي تحتلّها. كما أن الجهات الضامنة لهذا الاتفاق، سوف تتولّى تعزيز قوة الجيش اللبناني، باعتباره القوة العسكرية الوحيدة المسؤولة عن حدود وأمن لبنان. وفي حال التزم بتنفيذ موجبات الاتفاق الأمني، ضمن برنامج زمني مقبول لإزالة الجناح العسكري لحزب الله، فسيكون من السهل على الولايات المتحدة إقناع «أغنياء المنطقة» بالإنفاق على إعادة الإعمار، وإطلاق دورة الاقتصاد اللبناني.

برّاك، وكذلك الآخرون من المبعوثين الأميركيين، لا يهتمون إن قال لهم البعض، إن ما تطالبون به، يُسمى «استسلاماً» أمام الغطرسة الإسرائيلية. وإذا كان صعباً على الوسطاء الأميركيين، فهم معنى أن المقاومة ليست في وارد الاستسلام، فإنه سيكون من الصعب توقّع حلحلة في الأفق. وهو ما يجعل إسرائيل تعود إلى لعبتها المفضّلة، القائمة على استخدام القوة ولو ضد أهداف غير واضحة. لكنّ المهم بالنسبة إليها، أنها ترى نفسها في موقع المتفوّق سياسياً وعسكرياً وأمنياً ونفسياً!

وهنا أيضاً، عودة إلى السؤال – اللغز: على ماذا يراهن حزب الله؟

المنشورات ذات الصلة