عاجل:

"الضاحية - الضحية"... نزوحٌ صامت من الجنوب البيروتي بلا خيم… خوفًا من تكرار الجحيم (خاص)

  • ٣٧

خاص - "إيست نيوز"

عبير درويش

لم تعد سيارات الأجرة في مداخل الضاحية الجنوبية لبيروت تنقل العمّال والطلاب فحسب، بل تحمل اليوم حقائب وعائلات بأكملها تبحث عن مأوى مؤقت “إلى أن تهدأ الأمور”، كما يقول سائق أجرة في حارة حريك.

تبدو الشوارع أقلّ ازدحامًا، والمحال التجارية في برج البراجنة والمريجة تغلق أبوابها باكرًا، بينما ترتفع أصوات القلق في بيوتٍ اعتادت أصوات الطائرات من فوقها، لكنها لم تعتد بعد على فكرة الرحيل.

نزوح تدريجي… بلا تنظيم رسمي

خلال الأسابيع الأخيرة، سجّلت حركة نزوح ملحوظة من مناطق حارة حريك، المريجة، وبرج البراجنة نحو مناطق أكثر أمانًا داخل بيروت وجبل لبنان، أبرزها عاليه، بعبدا، المتن وبيروت الإدارية.

النزوح – بحسب إفادات الأهالي – ليس منظمًا رسميًا، بل قائم على مبادرات فردية وتنسيق عائلي. يقول أحد أبناء المنطقة: "من لديه أقارب في المناطق الجبلية أو شقة صغيرة خارج الضاحية يرسل عائلته فورًا، والباقون ينتظرون على أعصابهم".

نابلسي: نزوح “صامت” غيّر وجه المنطقة

يُفسّر الأكاديمي والمستشار في الإدارة والاقتصاد السياسي الدكتور حسين نابلسي هذه الظاهرة بأنها “نزوح صامت لكنه مؤثّر بعمق على الدورة الاقتصادية والاجتماعية”. ويقول في حديثٍ خاص لـ "إيست نيوز": "أن التقديرات تشير إلى مغادرة ما بين 30 إلى 50 في المئة من العائلات الضاحية، وهي نسبة متقلبة ترتفع مع التهديدات وتتراجع مع الهدوء النسبي. معظم النازحين من العائلات المتوسطة والميسورة القادرة على تحمّل أعباء الإيجار أو تملك منازل بديلة”.

ويضيف نابلسي: "هذا التحوّل يُحدث إعادة توزيع غير متوازنة للنشاط الاقتصادي. نرى تراجعًا في المبيعات اليومية داخل الضاحية، مقابل ارتفاع الطلب على الشقق والخدمات في مناطق الاستقبال، ما يرفع بدوره أسعار الإيجار بنسبة تصل إلى 40% في بعض أحياء جبل لبنان”.

غياب الدولة… وحضور البلديات خجول

في الوقت الذي تغيب فيه أي خطة حكومية لإدارة النزوح، تكتفي البلديات بتسهيل الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء ونفايات، من دون أي برامج دعم مباشر للعائلات النازحة. ويقول نابلسي:"أن المشهد يُشبه ما حصل أثناء حرب تموز، لكن الفارق أن لا مراكز إيواء عامة اليوم، ولا تنظيم رسمي. كل عائلة تتحمّل مصيرها وحدها، ما يفاقم الفجوة الطبقية بين القادرين على النزوح ومن لا يجدون مخرجًا”.

خوف مضاعف: على الأطفال قبل الحجر

في الأحياء التي ما تزال مأهولة، يبدو القلق هو الضيف الدائم. تقول هازار يتيم، كانت تسكن في معوّض قبل أن تستأجر بيتاً مؤخرًا في عاليه وتضيف: “لم أكن أريد المغادرة، لكن كل ليلة كانت الطائرات تُحلّق فوقنا. كنت أضع حقيبة جاهزة قرب الباب تحسّبًا لأي طارئ. حين بدأت الانفجارات تقترب، قررت أن أستأجر بيتًا صغيرًا في عاليه حتى إشعارٍ آخر”.

هازار تصف انتقالها بأنه “قرار صعب ومكلف”، فالإيجارات ارتفعت بشكلٍ مفاجئ، لكن “راحة البال أهمّ من المال”. وتضيف: “أشتاق لبيتي وجيراني، نحن نعيش على أعصابنا”.

بين الحرب واللايقين

يرى الدكتور نابلسي أن دوافع النزوح تتجاوز الخوف الآني من القصف، لتعبّر عن فقدان الثقة بالمستقبل، ويلفت الى "أن الناس لا يهربون فقط من الخطر، بل من الإحساس بالعجز. غياب الحلول السياسية والاقتصادية يجعل أي أزمة أمنية تتطور تلقائيًا إلى أزمة سكانية واجتماعية".

ويحذّر من تداعيات طويلة المدى قائلا: "في حال استمر الوضع الحالي، سنشهد نزوحًا شبه دائم من المناطق الحدودية والضاحية نحو الداخل اللبناني، ما سيخلق اختلالًا ديموغرافيًا واقتصاديًا يصعب معالجته لاحقًا”.

مشهد إعلامي منقسم ومواطنون في العراء

في ظلّ الانقسام السياسي والإعلامي، تتضارب التغطيات بين من يهوّن من حجم النزوح ومن يضخّمه لأهداف دعائية. لكن على الأرض، تبدو الصورة أوضح من أي تحليل: "بيوت خالية، محال مغلقة، ومدارس تعمل بنصف طاقتها، في مقابل بلداتٍ جبلية بدأت تشهد حركة عمرانية وتجارية غير مسبوقة بفعل الوافدين الجدد".

نزوح بلا خيام… ووطن على حافة القلق

ما يجري في الضاحية ليس فقط نزوحًا مكانيًا، بل نزوح في الثقة. الناس يفرّون من المجهول، لا من القذائف وحدها.". وما "بين معوّض وعاليه، بين بيتٍ أُغلق وآخر فُتح مؤقتًا، يتأرجح اللبنانيون بين التعلّق بالجذور وحماية الحياة".

وكما يختم الدكتور نابلسي ليقول: “لبنان يعيش اليوم حرب استنزاف هادئة، عنوانها الخوف، وضحيتها الإنسان".

المنشورات ذات الصلة