خاص - "إيست نيوز"
أطلق حاكم مصرف لبنان كريم سعيد ، وفي مشهدٍ يُعيد الأمل بإمكانية المحاسبة بعد سنوات من الغموض المالي، قراراً بإجراء تدقيق مالي وجنائي (Forensic Audit) يشمل كلّ المستفيدين من برامج الدعم التي استُنزفت من أموال المودعين بعد 17 تشرين الأول 2019، وصولاً إلى عام 2023.
القرار الذي صدر بالتزامن مع موافقة الحكومة، في جلستها بتاريخ 27 حزيران 2025، على الآلية القانونية للتنفيذ عبر وزارتي المالية والعدل، يُعتبر أول محاولة رسمية لتتبّع مسار مليارات الدولارات التي صُرفت تحت عنوان «الدعم»، في واحدة من أكثر مراحل الاقتصاد اللبناني غموضاً وضبابية.
أموال الدعم… من أنقذت؟ ومن استنزفت؟
انفق لبنان بين عامَي 2019 و2023، أكثر من 10 مليارات دولار على دعم السلع الأساسية: الوقود، الأدوية، والمواد الغذائية. غير أنّ الجزء الأكبر من هذا الدعم لم يصل إلى المواطنين، بل ذهب إلى شركات مستوردة وتجار كبار حصلوا على الدولار المدعوم بسعر منخفض من مصرف لبنان، ثمّ باعوا السلع بأسعار السوق أو صدّروها إلى الخارج.
تؤكّد تقارير عدّة أنّ الدعم شمل مئات البنود، بعضها غير أساسي إطلاقاً مثل الكاجو، الزعفران، بودرة الكاكاو، ما أثار تساؤلات جدّية حول معايير الاستيراد والرقابة.
أمّا في قطاع المحروقات، فقد ظهر احتكار واضح بيد 14 شركة رئيسية، كانت تتحكّم بتوزيع السوق وأسعار المبيع.
وبحسب تحقيقات صحفية واستقصائية، فإنّ كميات من البنزين والمازوت المدعوم كانت تُهرَّب بانتظام إلى سوريا، أو تُخزَّن بهدف المضاربة ورفع الأسعار.
وفي قطاع الدواء، استفادت شركات توزيع كبرى من دولارات الدعم ،وغيرها من المستوردين التقليديين، فيما حُجبت الأدوية عن المواطنين وتوقّفت الصيدليات عن البيع بسبب انقطاع التمويل أو التخزين المتعمّد.
وزارة الصحّة أكّدت أنّها سلّمت قوائم المستوردين إلى مصرف لبنان، لكن لم تُنشر أي لائحة رسمية تُبيّن حجم الدعم الذي تلقّته كل شركة، بحجة «سرّية المعلومات التجارية».
أما في القطاع الغذائي، فقد فُتح باب الدعم على مصراعيه أمام المستوردين الكبار، وشملت لوائح الدعم نحو 380 سلعة، بعضها فاخر أو غير ضروري، ما أدّى إلى نزيف العملة الصعبة دون انعكاس ملموس على الأسعار في الأسواق. وأشارت تقارير إلى أن جزءاً كبيراً من هذه السلع إما خُزّن أو هُرّب إلى الخارج، في حين بقي المواطن ينتظر رغيف الخبز المدعوم والدواء المفقود.
التدقيق الجنائي: ما الذي سيتحقق فعلاً؟
التعميم الذي أصدره الحاكم الجديد يهدف إلى إعداد دفتر شروط لمشروع تدقيق خارجي مستقل، يشمل:
• كل المستفيدين من برامج الدعم بعد 17/10/2019؛
• التحويلات المصرفية إلى الخارج خلال الفترة نفسها؛
• النفقات التي سدّدها مصرف لبنان نيابة عن الدولة؛
• تحديد أي تجاوز للسلطة أو إساءة استخدام للأموال العامة.
الهدف المعلن هو استرداد وتصحيح أي مدفوعات غير مشروعة وإحالة المخالفات إلى القضاء المختص، مع مشاركة وزارتي المالية والعدل في الإشراف على التنفيذ.
لكن التحدّي الأكبر، كما يشير خبراء القانون والمال، يكمن في كسر جدار السرّية المصرفية الذي عطّل في السابق محاولات التدقيق، قبل إقرار قانون رفع السرية المصرفية، كما حدث مع شركة Alvarez & Marsal عام 2021 حين انسحبت بسبب رفض المصرف المركزي تزويدها بالمعلومات.
الخبير القانوني كريم داهر قال: "إن مصرف لبنان ليس مصرفاً خاصّاً، والأموال العمومية ليست خاضعة لقانون السرّية المصرفية، بل يجب أن تكون متاحة للتدقيق الكامل».
أين ذهبت الأموال؟
تقديرات خبراء الاقتصاد تُظهر أن أكثر من 70% من أموال الدعم لم تَصل إلى المستهلكين مباشرة، بل تحوّلت إلى أرباحٍ لمستوردين ومحتكرين أو ضاعت في دوامة الفساد والتهريب.
وتشير دراسة صادرة عن Byblos Bank – Lebanon This Week إلى أن برامج الدعم لم تُسهم سوى جزئياً في حماية الأمن الغذائي أو الصحي، بينما أدّت إلى «نزيف احتياطات النقد الأجنبي وازدياد العجز المالي».
بين الشفافية والنتائج المنتظَرة
من حيث المبدأ، يُعتبر قرار الحاكم خطوة إصلاحية جريئة تضع الملفات الحسّاسة على الطاولة، وتفتح الباب أمام المساءلة والمحاسبة. لكن التجربة اللبنانية السابقة تُحذّر من أن النيات الحسنة لا تكفي وحدها.
فالنتائج لن تكون ذات جدوى ما لم يُسمح للمدققين بالوصول إلى كل المستندات والحسابات، وما لم تُنشَر النتائج للرأي العام وتُحال الملفات المخالفة إلى القضاء.
اللبنانيون، الذين دفعوا الثمن من ودائعهم ومدّخراتهم، ينتظرون الآن كشف الحقيقة بالأسماء والأرقام: من استفاد؟ من هرّب؟ ومن سهّل؟
وهل سيبقى التدقيق مجرّد عنوانٍ للإصلاح أم يتحوّل إلى بداية فعلية لمسار العدالة المالية؟