عاجل:

انتخابات العراق: السوداني التكنوقراطي المسيس لولاية ثانية؟ (خاص)

  • ٣٥

خاص - "إيست نيوز"

خليل حرب

عندما تولى محمد شياع السوداني رئاسة الحكومة في العراق العام 2022، كان هناك العديد من المشككين. والمتفائلون كانوا هناك ايضا.

تمثيل برلماني بـ 3 مقاعد فقط لـ "تيار الفراتين" الذي يتزعمه، وولاية حكومية ناقصة زمنيا، اذ لم تدم سوى 3 سنوات بعدما ضاعت نحو سنة في صراعات القوى السياسية والحزبية، وتوتر لم يسبق له مثيل بين الصدريين من جهة والقوى الشيعية الكبرى من جهة أخرى وصلت الى حد الاشتباكات، ومناخ تخويني حاد حكم العلاقات بين الحكومة السابقة وبين بعض الفصائل الشيعية. شرارات فضيحة ما عرف باسم "سرقة القرن" خلال نهاية عهد مصطفى الكاظمي كانت تهز الحياة السياسية في البلد، وتفقد العراقيين ايمانهم بالنظام ككل؛ فيما تسود أجواء انعدام ثقة بين بغداد وبين حكومة اقليم كردستان؛ وفتور متبادل بين أنقرة وبغداد حول ملفات عديدة؛ ومسار ملتبس وصاخب يحتاج الى الكثير من المعالجات مع الولايات المتحدة.

ما من معجزة هنا. لكنها ليست صدفة ان يتردد الان بين العراقيين وفي الاعلام العالمي، ان العراق يتجه الى صناديق الاقتراع في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، وهو في أكثر حقباته هدوءا منذ العام 2005، تاريخ اول انتخابات في مرحلة ما بعد صدام حسين.

لم يمتلك محمد شياع السوداني عصا سحرية، ليقود العراقيين الى هذه اللحظة الانتخابية الاستثنائية الان. ولم تكن سنوات السوداني المبتورة في الحكم، مجرد 3 سنوات عابرة، وانما كانت حافلة بالمخاطر والعراقيل والمصاعب والضغوطات الداخلية والخارجية ايضا، وليس اقلها حروب ما بعد 7 اكتوبر/تشرين الاول 2023، وتفاقم الصدام الاميركي-الايراني اقليميا، لكنه، برغم ذلك، تمكن من قيادة الحافلة الى بر السلامة الانتخابية وصناديق الاقتراع المفتوحة امام خيارات الناس.

لكن أقدار الاوطان، لا تصنع صدفة. وهناك من يقول انه لو اجتمعت كل هذه الملفات الملتهبة على طاولة رئيس آخر، في بلد آخر، ربما ما كان لينجو منها، ولا نجت بلاده. لكن العراق نجا حتى الان.

ماذا فعل السوداني فعليا؟ اعاد تحويل النقاط التي كان يفترض ان تكون نقاط ضعفه، الى نقاط قوة له، يفتح من خلالها الابواب التي تبدو موصدة، ويسوي التشابكات المعقدة، في محيط من الازمات الداخلية والتحديات الاقليمية.

تحويل المشكلات الى فرص، في مناخ سياسي كالذي يعيشه العراق لن يكون مهمة سهلة امام اي سياسي عراقي. لكن السوداني الذي اعتبر كثيرون انه لن يتمكن من التقدم والنجاح لانه لا يتمتع بقاعدة شعبية ولا برلمانية تتيح له ذلك، استفاد من خلفيته الادارية الناجحة كتكنوقراطي وخبير خدم كوزير لحقوق الانسان ووزير للعمل والشؤون الاجتماعية، وكمحافظ لميسان، وسمعة الكف الحسنة التي يتمتع بها، ليصعد الى رئاسة الوزراء بتوافق القوى السياسية المختلفة، من الشيعة والسنة والاكراد، ومن خلال "الإطار التنسيقي" الشيعي الذي سماه، ثم بتوسيع قاعدة التأييد السياسي والبرلماني له من خلال تشكيل "ائتلاف ادارة الدولة".

وبرغم انسحاب الصدريين من البرلمان، ثم من الحياة السياسية، فان كثيرين توقعوا إطلاق يد حلفاء السوداني في الحكم، ضدهم. لكنه لم يفعل. بل ان السوداني بذل جهودا لمد خيوط التواصل مع السيد مقتدى الصدر، على الرغم من ان كثيرين توقعوا ان يلجأ الصدر الى "سياسة الشارع" ضد "الإطار التنسيقي"، غير ان السوداني، كان دائما عامل الاحتواء والتهدئة.

وكان من الواضح ان السوداني يحظى باحترام خاص، فهو بالاضافة الى سيرة مسيرته السياسية سابقا والتي لا غبار عليها، فان كثيرين نظروا اليه بعيون مختلفة، فهو لا ينتمي الى الطبقة السياسية الجديدة التي برزت فيما بعد العام 2003، وهو ايضا من ضحايا ظلم نظام صدام حسين الذي أعدم والده، ولم يطور علاقاته كشخصية معارضة في المنفى مرتبطة بالدول الاقليمية او عواصم غربية.

وحتى النقطة التي أخذها كثيرون عليه عندما تولى رئاسة الوزراء، بانه شديد القرب والارتباط برئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي، وان ذلك سيقيد يدي السوداني ويحد من قدرته على العمل، حولها السوداني الى صالحه سياسيا، وابقى المالكي الى جانبه من خلال الاطار التنسيقي، لكنه اصدم به عدة مرات، من دون قطيعة معه، الى ان خط مساره السياسسية الخاص وصولا الى قراره خوض الانتخابات الحالية بقائمة خاصة به، بعيدا عن "حليفه" المالكي، وذلك باسم "تحالف الاعمار والتنمية" الذي اعلنه في 20 ايار/مايو الماضي.

وانتقل السوداني بنجاح في مهمة تبريد نظرة القوى الشيعية المتوترة مع بغداد خلال حكومة الكاظمي، وحاز من جهته على تعاون ورضا هذه القوى والاحزاب، بدلا من سياسة الصدام والمواجهة معها، مع تحويل تركيز الجميع، خصوصا القوى السياسية، بعيدا عن المناكفات، باتجاه العمل لتحقيق الانجازات والاعمار لكي يشعر بها العراقيون، برغم العمر المنقوص من ولايته الحكومية التي من المفترض ان تكون 4 سنوات.

ولهذا، فان الانجازات ليست قليلة. عمليات واسعة لتجميل بغداد، وتخفيف الاختناقات المرورية وشق الطرقات، وتقليص القيود الامنية المزعجة في الشوارع العامة، واطلاق مشروع "طريق التنمية" العملاق الذي كسب من خلاله ايضا تقاربا ضروريا مع انقرة التي سعى ايضا معها لمعالجة قضايا شح المياه الملحة، وقضية حزب العمال الكوردستاني والتحديات الامنية على الحدود مع تركيا، وذلك مع حرص على علاقة طيبة ومريحة مع طهران التي كانت من بين اوائل العواصم التي زارها كرئيس للحكومة، ومع الرياض التي سهلت بغداد مصالحتها التاريخية مع الايرانيين.

ولم يكن السوداني ممن نسجوا سابقا علاقات مع العواصم الغربية، وهو ما سمح له بعدما تولى منصبه بان يخطو بهدوء لاقامة هذه العلاقات بشكل متوزان وبما يضمن مصالح "العراق اولا" وهو الشعار الذي يعتمده في حراكه السياسي داخليا وخارجيا. ولم يكن ذلك مسارا سهلا، ذلك ان السوداني الان، وهو على اعتاب اليوم الانتخابي، نجح في الوصول الى هنا محملا بإرث يشار اليه على انه تمكن بمهارة من تحقيق "توازن" في التموضع بعلاقاات بغداد ما بين طهران وواشنطن. والى جانب العلاقات الاقتصادية والثقافية والدينية المتميزة التي وطدها مع الايرانيين، فانه ايضا سعى الى فتح الابواب الاقتصادية ام الشركات الاميركية –والغربية-، خصوصا في مجالات النفط والطاقة والغاز والكهرباء والطاقة البديلة، من دون ان يغلق الابواب امام المصالح الروسية والصينية الكبيرة في هذه القطاعات وغيرها.

هذا توازن دقيق وحساس ليس بامكان اي سياسي ان ينجزه، لكن السوداني فعلها. وظل يردد بان العراق سيظل يلعب دور "التجسير" في الازمات والصراعات، لكنه في الوقت نفسه لم يقع في فخ التخلي عن القضية المركزية المتمثلة بفلسطين، او بالسماح بفرض فكرة "التطبيع" مع اسرائيل على العراق، وكان من اعلى الاصوات العربية التي نادت ضد الحرب الاسرائيلية على غزة، مع بذل جهد مواز للحؤول دون تعرض العراق الى عدوان اسرائيلي.

ومن البديهي القول ان هذه الانجازات، وغيرها، ربما ما كانت لتتم لولا ان السوداني خطا خطواته طوال الاعوام الـ 3، بحرص ودقة مستهدفا اعادة انتاج "التوازن السياسي المفقود" داخليا والذي أفقد شرائح عراقية كثيرة قدرتها على التفاؤل بالنظام القائم، لكنها الان صارت ترى بصيص امل، بما في ذلك ايضا ادارته الجيدة لملفات الازمات مع اقليم كردستان حول الميزانية والرواتب وموارد النفط التي عالجها بعد طول صبر ومثابرة.

يبدو العراق الان في أفضل حالات استقراره خلال العقدين الماضيين، وفي تراجع المخاطر الامنية الداخلية وتحديدا من جانب الارهاب. ومهما كانت نتائج عملية الاقتراع في 11 نوفمبر، فان السوداني سيحقق نتيجة قوية، لكن أحدا لا يمكنه حصد الغالبية البرلمانية لوحده، بما يتيح له الاستفراد بتشكيل الحكومة الجديدة. وتقتضي اللعبة السياسية بأن يأتي رئيس الوزراء بتوافق الكتل التي تؤمن له ما يكفي من التأييد داخل مجلس النواب. وإذا اختارت القوى السياسية تنحية المناكفات جانبا، وغلبت الحكمة مكانها، فان منطق العمل السياسي وتجربة الاعوام ال3 تفترض ان يمنح العراقيون، وقواهم السياسية، "السوداني الثاني" تفويضا جديدا لمتابعة مسيرة "السوداني الأول" التي بدأها بتواضع، وكبر العراق معها.

المنشورات ذات الصلة