خاص "إيست نيوز"
عبير درويش
في مكتبٍ متواضع في وزارة البيئة، جلس وزير البيئة السابق ناصر ياسين يقلب خرائط الجنوب اللبناني المتفحمة. أصابعه تتوقف عند بقعٍ سوداء كانت قبل عامٍ فقط خضراءَ بزيتونٍ وأشجارٍ حرجية، قبل أن يلتهمها الفوسفور الأبيض الذي أمطرته إسرائيل على الأرض في حربها الأخيرة. "المعركة لم تنتهِ بانتهاء القصف"، يقول ياسين، "الجنوب اليوم يحترق ببطء داخل تربته".
الفوسفور الأبيض: حريق لا يراه الناس
يشرح ياسين أن 462 هكتارًا من الأراضي الزراعية والحرجية أحرقتها إسرائيل باستخدام الفوسفور الأبيض بين تشرين الأول 2023 تشرين الثاني 2024، ما أشعل أكثر من 100 حريق وأتلف عشرات آلاف أشجار الزيتون. في بعض العينات، تجاوز تركيز الفوسفور في التربة 400 مرة المعدل الطبيعي.
رغم محاولات الوزارة طمأنة المزارعين بإمكانية استعادة خصوبة الأرض، إلا أن الخطر الصامت لا يزال قائمًا: تسرّب الفوسفور إلى المياه الجوفية، تغيّر تركيب التربة، واحتمال اشتعال حرائق جديدة عند ملامسة بقايا المادة للهواء.
وبينما يُعدّ الجنوب الرئة البيئية للبنان، فإن الحرب الأخيرة جعلت منه مختبرًا مفتوحًا للتلوث، وسط غياب خرائط دقيقة توثّق ما تغيّر من الغطاء الأخضر. خسائر القطاع الزراعي وحده بلغت 700 مليون دولار، بينها 12 مليون دولار في بساتين الزيتون التي تحوّلت إلى رماد.
تشجير بلا قانون
لكن المفارقة، أن في الوقت نفسه الذي كانت فيه النيران تلتهم الجنوب، كانت في الجبال اللبنانية تُزرع "غابات جديدة" تُسوّق كرموزٍ للأمل الأخضر. غير أن كثيراً من تلك المشاريع البيئية – كما يكشف تحقيق ميداني – تحمل في طياتها وجهاً آخر من الدمار البيئي المقنّع.
من صنين إلى الشوف وتنورين، نفّذت جمعيات ومؤسسات حملات تشجير ضخمة من دون أي تقييم بيئي مبدئي كما يفرضه القانون رقم 444/2002 ومرسومه التطبيقي 8633/2012.
يقول الباحث البيئي رامي معلوف: "ما يجري ليس تشجيراً بل استعمارٌ بيئي جديد. حيث تُزرع أشجار أرز وصنوبر في مناطق لا تناسبها بيئياً، وتُقتل نباتات نادرة تعيش منذ آلاف السنين تحت ذريعة استعادة الخضار".
وفي مشروع صنين مثلاً، استمرت الأعمال ست سنوات من دون موافقة بيئية مسبقة، رغم أن وزارة البيئة كانت على علم بالمشروع. استخدمت جرافات لحفر التربة، وزُرعت آلاف الأرزات على ارتفاعاتٍ حساسة، ما أدى إلى اختناق الغطاء النباتي الأصلي وتغيّر حموضة الأرض بفعل الإبر المتساقطة من الأرز.
القانون واضح… والتطبيق غائب
القانون اللبناني يلزم بإجراء تقييم بيئي مبدئي (IEE) لكل مشروع تحريج، يليه عند الحاجة تقييم الأثر البيئي الشامل (EIA). لكن في الواقع، تُنفّذ المشاريع قبل أي فحص، وغالباً بتمويلٍ دوليّ ضخم، ما يجعل الرقابة هشّة.
تؤكد مديرة "جمعية التحريج في لبنان" الدكتورة مايا نعمة، أن "الوزارة نفسها أبلغت الجمعيات بطريقة غير رسمية أن لا حاجة لإجراء فحص بيئي مبدئي لأن النتائج دائماً إيجابية". وهكذا يتحوّل النص القانوني إلى ديكور، والبيئة إلى مسرح تمويلٍ سهل، حيث تُزرع الأرقام بدل الغابات، وتُحصى الشتول بدل الأنواع.
عندما يختفي التنوع تحت الأرز
الخبير رامي معلوف وثّق في صنين 38 نبتة لبنانية مستوطنة، منها 32 مهددة بالانقراض و15 باتت اليوم تحت ظلال الأرز المزروع. بعض الأنواع مثل Cephalaria cendrorum وIris susiana تراجعت في الشوف بسبب مشاريع تشجيرٍ غير مدروسة، فيما انقرضت Chaerophyllum syriacum في البقاع بعد إقامة بساتين تفاح فوق موطنها.
"ليس كل أخضر خيراً"، يقول معلوف، "فالأرز في غير موطنه قد يكون مثل الفسفور الأبيض: يبدو جميلاً من بعيد، لكنه يقتل الحياة تحت سطح الأرض".
من رماد الحرب إلى رماد القوانين
البيئة اللبنانية اليوم محاصرة من جهتين، ما بين الفسفور الأبيض في الجنوب الذي أحرق التربة وقتل الزيتون. والتشجير غير القانوني في الجبال الذي يخنق التنوع البيولوجي تحت راية "البيئة المستدامة". وفي كلتا الحالتين، النتيجة واحدة: نظام بيئي يختنق، وقانونٌ يُهمَل، ووزارةٌ تُراقب بصمت.
بصيص أمل من تنورين
في مقابل الفوضى، يبرز نموذج تنورين كنقطة ضوء. هناك، أُعدّ مخطط توجيهي علمي بإشراف جامعة البلمند، خضع لتقييم بيئي شامل، واعتمد زراعة أنواع محلية مثل اللزاب والتفاح البري والورد الجبلي. وتجاوزت نسبة نجاح الـ 80% من الشتول، وحماية لتنوع نباتي استثنائي، بينها أشجار لزاب عمرها يفوق الألف سنة. وهو ما اعتبرته مستشارة التنمية في البلدية ريتا البكاسيني: "البيئة لا تُحمى بالشعارات بل بالعلم. نحن لم نزرع لأننا استطعنا، بل لأننا عرفنا أين وماذا نزرع".
ما بين الحرب والتشجير: لبنان بحاجة إلى رؤية خضراء حقيقية
يؤكد وزير البيئة السابق ناصر ياسين أن إعادة إحياء الجنوب ستبدأ بمسح ميداني شامل للتربة والمياه، وإعادة التشجير بأنواع محلية مقاومة للجفاف، بالتعاون مع الجامعات والجمعيات البيئية. ولكن من دون إصلاح المنظومة الإدارية التي تسمح بتجاوز القانون في المشاريع البيئية، ستبقى الجهود مجتزأة. فالأرض لا تشفى بالرماد، بل بالمساءلة.
ليس كل أخضرٍ حياةً، ولا كل رماد موتاً
من رماد الفسفور الأبيض في الجنوب إلى ظلال الأرز المزروع في الجبال، يعيش لبنان بين كارثتين بيئيتين: واحدة أشعلتها الحرب، وأخرى أشعلها الإهمال. والاثنتان تشتركان في جذرٍ واحد: غياب التخطيط العلمي والتطبيق الصارم للقانون. فإذا كان الجنوب يختبر اليوم قدرته على الزهر من جديد، فإن الجبال تختبر صدق نوايانا الخضراء، والبيئة لا تحتاج إلى شتول إضافية، بل إلى وعيٍ يزرعها بعقلٍ وقانون.
تصوير: "عباس سلمان"