عاجل:

عشرة أشهر من الحكم: بين وعد الإصلاح وواقع الجمود… لماذا لم يشعر اللبناني بالتغيير؟ (خاص)

  • ٣١

خاص – "إيست نيوز"

عاد إلى اللبنانيين بعض الأمل منذ أن أعلن مجلس النواب اللبناني انتخاب قائد الجيش السابق العماد جوزاف عون رئيسا للجمهورية في كانون الثاني 2025، وتكليف القاضي والدبلوماسي نواف سلام بتشكيل الحكومة، وبأن صفحة الانقسام الطويلة قد تطوى أخيرا. تشكّلت حكومة كاملة بعد أكثر من سنتين من الشلل، فتنفّست البلاد قليلا، وبدأت الوعود تتدفّق: إنقاذ الليرة، إصلاح الكهرباء، مكافحة الفساد، واستعادة الثقة.

لكن بعد عشرة أشهر من العمل، ما الذي تحقق فعلا؟

وأين هي ثمرة الوعود التي لم تلامس بعد جيب المواطن أو طاولة طعامه؟

أولاً: السياسة والإدارة – كسر الفراغ لا يكفي وحده

تُعتبر ولادة حكومة نواف سلام في شباط 2025 أول حكومة مكتملة الصلاحيات منذ أكثر من سنتين. خطوة سياسية مهمة أنهت الشغور وأعادت انتظام المؤسسات، لكنها واجهت فورا جبلا من الملفات المؤجلة.

الائتلاف الحكومي وصف بـ”حكومة التوازنات”، بين مستقلين ووجوه من القوى التقليدية، ما سمح بفتح خطوط مع العواصم العربية والغربية، خصوصًا بعد انفتاح الرياض وباريس على الرئاسة الجديدة.

غير أن الإصلاح في لبنان لا يقاس بتأليف الحكومات بل بقدرتها على كسر منظومة التعطيل المزمنة، وهذه المهمة ما زالت في بدايتها.

ثانيًا: الاقتصاد – أرقام تبشّر ونبض الناس متعب

 أشار تقرير البنك الدولي الأخير إلى أن لبنان قد يحقق نموًا بنحو 4.7٪ في 2025، إذا استمر تنفيذ الخطوات الإصلاحية.

ورغم أن هذه النسبة تُعدّ تحسّنًا بعد سنوات الانكماش، إلا أنّها أشبه بـ”انتعاش هشّ” كما وصفها البنك، لأن الأسس التي بُني عليها الاقتصاد ما زالت مضطربة: لا قطاع مصرفي سليم، ولا مالية عامة متوازنة، ولا إنتاج محلي قادر على المنافسة.

الأسواق ما زالت تدار ب"اللايقين"، والعملة لم تستقر، والقدرة الشرائية تواصل الانحدار.

باختصار، الأرقام تتحدث عن تحسن محتمل، لكن الحياة اليومية تنطق بالعكس.

ثالثًا: المالية العامة – أمل بصندوق النقد… وشروط قاسية

 بدأت منذ آذار 2025 مفاوضات جدية بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي حول برنامج تمويل جديد.

لكن الصندوق اشترط إصلاحات قاسية: إعادة هيكلة المصارف، توحيد أسعار الصرف، تحسين الجباية، وضبط الإنفاق.

حتى اللحظة، لم يُعلن عن اتفاق نهائي، والتمويل الدولي ما زال مشروطًا.

بكلمة واحدة: الإصلاح المالي بدأ "على الورق، أما التنفيذ فيتقدّم بخطى وئيدة تحت وطأة الانقسام والبيروقراطية

رابعًا: القطاع المصرفي – تعديل قانون السرّ المصرفي… خطوة لا تكفي

اقر مجلس النواب في نيسان 2025 تعديل قانون السرية المصرفية، بحيث أصبح بإمكان القضاء والهيئات الرقابية الوصول إلى الحسابات في حالات محددة.

اعتُبرت هذه الخطوة "تاريخية"، إذ إنها كانت مطلبًا أساسيًا من صندوق النقد والاتحاد الأوروبي.

لكن القانون وحده لا يعيد أموال المودعين، ولا يعيد الثقة إلى النظام المصرفي.

فإعادة هيكلة المصارف وتوزيع الخسائر بين الدولة والمصارف والمودعين ما زالت ملفات معلقة تنتظر قرارا سياسيا جريئا لم يأتِ بعد.

خامسًا: الحماية الاجتماعية – دعم محدود أمام فقر شامل

وسعت الحكومة بالتعاون مع اليونيسف والاتحاد الأوروبي، برنامج الدعم النقدي للأسر الأكثر ضعفا، لكن وفق أرقام البنك الدولي، يعيش أكثر من 70٪ من اللبنانيين في فقر متعدّد الأبعاد.

ما يعني أن المساعدات الحالية، رغم أهميتها، تبقى مجرد "مسكّن موقت" لا يعالج الجرح الحقيقي المتمثل بانهيار الخدمات وغلاء المعيشة والبطالة.

سادسًا: الخدمات والبنى التحتية – إصلاح الكهرباء حلم مؤجل

لم يطرأ تحسّن جوهري على الكهرباء أو المياه أو النقل العام.

المشاريع المعلنة لإعادة هيكلة مؤسسة كهرباء لبنان تحتاج إلى تمويل خارجي كبير لم يتوافر بعد.

أما مشاريع الصيانة فتنفذ بالحد الأدنى، وغالبا بتمويل مؤقت من مؤسسات دولية.

وهكذا، يبقى المواطن أسير المولدات، والفاتورة المزدوجة، والظلام المتقطع.

سابعًا: العدالة ومكافحة الفساد – ملفات عالقة في دهاليز القضاء

أعلنت الحكومة نيتها "فتح الملفات الكبرى"، وأقرّت قوانين تمهّد للمساءلة، لكن القضاء ما زال مثقلا بالضغوط السياسية وبنقص الموارد.

لم يشهد اللبناني بعد محاسبة فعلية لمسؤولين أو مصرفيين كبار.

وكما يقول المثل الشعبي: "الناس تريد أن ترى العدالة تمشي على قدمين، لا أن تبقى حبرًا على ورق".

ثامنًا: العلاقات الخارجية – انفتاح عربي وغربي مشروط بالإصلاح

الديرات التي قام بها رئيس الجمهورية جوزاف عون من جهة ورئيس الحكومة نواف سلام من جهة اخرى إلى الرياض وباريس وغيرها من الدول أعادت لبنان إلى خارطة الاهتمام، خصوصًا في إطار خطة الاستجابة اللبنانية 2025 (Lebanon Response Plan) التي تبنتها الأمم المتحدة.

لكن الدول المانحة تطالب بنتائج ملموسة قبل ضخ أي تمويل واسع.

الثقة الدولية متوفرة بالتصريحات، لكنها مقيدة بالفعل.

تاسعًا: الأمن والنظام العام – استقرار هش تحت وطأة الأزمات

الجيش اللبناني ما زال الضامن الأول للاستقرار، ووجود الرئيس عون في بعبدا عزز التنسيق بين المؤسسات الأمنية.

لكن الوضع الاجتماعي الهش، وتفلت بعض المناطق من سلطة الدولة، يجعل الأمن الداخلي عرضة للاهتزاز عند أي صدمة مالية أو سياسية.

الاستقرار موجود، لكنه يعيش على الحافة.

عاشرًا: لماذا لم يشعر المواطن بأي تحسن؟

الجواب بسيط وموجع في آن:

كل ما تحقق حتى اليوم هو إصلاح هيكلي لم تظهر ثماره بعد.

القوانين وُضعت، الاجتماعات عُقدت، الوعود قُطعت، لكن في حياة اللبناني اليومية لا شيء تغيّر:

الراتب لا يكفي، الأسعار ترتفع، الكهرباء تنقطع، والمصارف ما زالت مغلقة على أموال الناس.

اللبناني اليوم لا يريد مؤتمرات ولا بيانات، بل يريد أن يشعر بأن الدولة عادت فعلًا.

خمسة اقتراحات قابلة للتطبيق سريعًا لرفع أثر الإصلاح على المعيشة:

 1. برنامج دعم غذائي ودوائي مباشر

عبر تحويلات رقمية بإشراف الأمم المتحدة ووزارة الشؤون، لتأمين الغذاء والدواء للعائلات الفقيرة خلال الأشهر الستة المقبلة.

 2. تحفيز الإنتاج المحلي السريع

عبر إعفاءات ضريبية مؤقتة للصناعات الغذائية والزراعية، لتقليص فاتورة الاستيراد وخلق فرص عمل جديدة.

 3. إطلاق خطة طوارئ كهربائية مصغّرة

تعتمد على استجرار الطاقة من الأردن وسوريا ورفع إنتاج المعامل القائمة مؤقتًا بتمويل مشترك من البنك الدولي والدول المانحة.

 4. إعادة هيكلة عادلة للمصارف

تبدأ بمصارف قادرة على الاستمرار وتُخضع الأخرى لعمليات دمج أو تصفية شفافة بإشراف دولي، مع تحديد سقف زمني لاستعادة الودائع الصغيرة والمتوسطة.

 5. إنشاء “هيئة شفافية وطنية” مستقلة

تضم قضاة وخبراء وممثلين عن المجتمع المدني، تتابع تنفيذ الإصلاحات وتصدر تقارير فصلية علنية، لردم الفجوة بين الحكومة والمواطن.

عشرة أشهر من الحكم كانت كافية لتغيير اللهجة، لا الواقع.

نجح الرئيس جوزاف عون في إعادة الحد الأدنى من الانتظام المؤسساتي، ورئيس الحكومة نواف سلام أعاد لبنان إلى طاولة المانحين.

لكن التحول الحقيقي لن يقاس بالتصريحات، بل بعودة الكهرباء، واستقرار الليرة، واسترجاع الثقة في المصارف، وفتح باب العدالة أمام الجميع.

حتى ذلك الحين، يبقى لبنان على عتبة التحوّل: بلدٌ أنهكته الأزمات، لكنه لا يزال يمتلك ما يكفي من العقل والإرادة كي ينهض من جديد.


المنشورات ذات الصلة