عاجل:

من غزة إلى بيروت: سلامٌ مؤجَّل وحروبٌ مؤقّتة.. (خاص)

  • ٤٠

خاصّ- "ايست نيوز"

جوي ب. حداد

تصف مصادر ديبلوماسية رفيعة المستوى الوضع في المنطقة بأنه "سيّئ للغاية"، إذ يبدو "أن كل النماذج المحيطة بلبنان تسير نحو مزيد من التعقيد والإحباط، في ظلّ مساعٍ أميركية تتقدّم ببطء نحو ما يُسمّى بـ "غزة الجديدة"، فيما تتراجع فرص التسوية الحقيقية، لا في فلسطين ولا في الإقليم الذي يعيش منذ عام على حافّة الاشتعال".

فعلى الرغم من إعلان وقف النار في قطاع غزّة، إلا أن الهدوء الهشّ يخفي وراءه معركةً أكثر تعقيداً: معركة إعادة رسم الخرائط السياسية والديموغرافية.

فالمساعي الأميركيّة الأخيرة، بحسب ما تؤكّد مصادر ديبلوماسية غربية، تهدف إلى إعادة ترسيم حدود القطاع ضمن رؤية تقوم على إنشاء ستّ تجمّعات سكانية تخضع لوصايةٍ أمنية وإدارية تمتد عشر سنوات، في إطار مشروع يهدف إلى "ضمان الأمن الإسرائيلي" قبل أيّ حديث عن السيادة الفلسطينية.

لكنّ ما يُسوَّق كـ "حلٍّ إنسانيّ سريع" يبدأ من رفح، يخفي واقعاً أكثر مرارة: تهجير ما يُقارب المليون فلسطيني، في عمليةٍ مقنّعة تحت عنوان "إعادة الإنتشار"، ما يمهّد فعلياً لتقسيم القطاع وإبقاء السيطرة الإسرائيلية على ثلثي أراضيه.

وهو ما تعتبره مصادر عربية "نموذجاً مكرّراً" من سياسات التقسيم القديمة، إنما بلبوسٍ إنسانيّ جديد.

وصاية أم إعادة إعمار؟

في المُقابل، تتحدّث واشنطن وشركاؤها عن مرحلة "إعادة إعمارٍ" ستكون كلفتها الإنسانيّة والسياسيّة باهظة. فالمساعدات الدولية التي تُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات لن تُضخّ في بيئةٍ سيادية فلسطينية، بل عبر قنوات وصاية مُتعدّدة الأطراف، تشمل الأمم المتحدة وبعض الدول العربية والولايات المتحدة نفسها، في نموذج أقرب إلى "إدارة انتدابية" منه إلى مشروع نهوض وطني.

ومع غياب التوافق الفلسطيني الداخلي، وتآكل الثقة بين السلطة وحماس، تبدو كلّ مشاريع الإعمار مؤجّلة أو مشروطة. فلا شيء في غزّة اليوم يُبنى قبل أن يُعاد تفكيك المشهد السياسي بأكمله، من حدود القطاع حتى معابر مصر وإسرائيل، ومن هُويّة الحكومة المُقبلة حتى شكل الأمن على الأرض.

ارتدادات على لبنان والمنطقة

أما لبنان، فليس بعيداً عن تداعيات هذه الخطط. فالتسويات الجزئية التي تُطرح في غزة أو الجنوب السوري سرعان ما ترتدّ على جبهته الجنوبية. وتشير المصادر الديبلوماسية نفسها إلى أن "أيّ تسوية تُفرض بالقوّة في غزّة ستعيد خلط الأوراق في الجنوب اللبناني"، خصوصاً إذا ترافقت مع ضغطٍ أميركي لإعادة طرح ملفّ ترسيم الحدود البريّة بعد البحرية، أو لمُحاولة إعادة هندسة الوجود الأمني في جنوب الليطاني ضمن مهلةٍ زمنية مُحدّدة.

لبنان، العالق في منطقة رمادية بين حربٍ لا يريدها وسلامٍ لا يُمنح له، ينظر إلى ما يجري في غزّة بقلقٍ مزدوج: قلقٍ من التطبيع الإقليمي الذي يتقدّم على حساب القضية الفلسطينية، وقلقٍ من أن يُستخدم مجدّداً كساحةٍ لتوازنات الآخرين. فالهدوء في القطاع إذا ما كان هشّاً، فسيكون أثقل وطأة على لبنان، الذي يعيش أصلاً تحت ضغط الانهيار المالي والسياسي والأمني.

لبنان بين الانهيار والانفتاح الخليجي

وفي خضمّ هذا الجمود، برز تطوّر لافت تمثّل في زيارة وفد سعودي رفيع المُستوى إلى بيروت يضمّ 27 شخصية مُتخصّصة في مجالات استثمارية واقتصادية وتنموية وسياحية وغيرها، في خطوةٍ تعبّر عن جدّية المملكة في مقاربة الملف اللبناني من زاوية جديدة.

الزيارة، التي تشمل لقاءات مع الرؤساء الثلاثة جوزاف عون ونبيه برّي ونوّاف سلام، تشكّل بحسب مصدر ديبلوماسي "نقلة نوعية في مقاربة الرياض للوضع اللبناني"، إذ تأتي تنفيذاً لتوجيهات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي شدّد في أكثر من مُناسبة، ولا سيّما خلال لقائه رئيس الجمهورية في زيارته الأخيرة إلى الرياض، على أن دعم المملكة لأي دولة عربية يجب أن يقوم على أسس واضحة من الشفافية والإصلاح وبناء المؤسّسات، لا على المجاملات السياسية أو العلاقات الشخصية، "إنما من دولة إلى دولة".

ويختم المصدر بالقول: "هكذا تبدو زيارة الأمير فيصل بن فرحان مؤشّراً حاسماً إلى نوعية العلاقة المُقبلة بين الرياض وبيروت، بحيث ستكون علاقة شراكة ومُتابعة، لا تبعية ومُجاملة. وهي في جوهرها رسالة مزدوجة إلى اللبنانيين: الأولى دعمٌ واضح للشعب اللبناني الراغب بالنهوض، والثانية دعوة صريحة للطبقة السياسية كي تُثبت، بالفعل لا بالقول، أن لبنان الجديد يستحقّ فرصة جديدة".

خلاصة المشهد

الحديث عن "غزّة جديدة" قد يبدو في ظاهره مشروعاً لإعادة البناء، لكنّه في جوهره إعادة هندسةٍ جذرية للواقع الفلسطيني، بما يضمن استمرار النفوذ الإسرائيلي لعقدٍ كاملٍ على الأقلّ، تحت رعايةٍ أميركية مُباشرة. وفي المحصّلة، فإن الكلفة الإنسانيّة والسياسية لهذه المُقاربة قد تتجاوز حدود القطاع لتطال كلّ المنطقة، من الأردن إلى لبنان، مروراً بسيناء وسوريا.

هكذا، يبدو الشرق الأوسط اليوم أمام سلامٍ مؤجّل وحروبٍ مؤقّتة؛ سلامٌ يُكتب في الغرف المُغلقة على حساب الشعوب، وحروبٌ تُدار على شاشات العالم تحت شعار "إعادة الإعمار". وبين هذا وذاك، يبقى الفلسطيني وحده يدفع الثمن، ولبنان ينتظر كما دائماً ارتدادات ما يُرسم حوله.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يُراد لغزّة أن تُعاد إعمارها... أم يُراد إعادة تشكيلها من جديد؟

المنشورات ذات الصلة