عاجل:

بين "خرائط البحر" و"حدود المصير"... لبنان يدخل زمن الترسيم الكبير على إيقاع الغاز والسياسة (خاص)

  • ٢٣

خاص - "إيست نيوز "

عصام شلهوب

البحر أمامنا، لا يهمّه من نحن.

أمواجه تتراقص فوق رصيف مهجور في شمال لبنان أو جنوبه او في اتجاه الغرب، تحمل رائحة الملوحة، صدى قوارب الصيد المهجورة، وهمسات أمل في بزوغ فجر لم يأتِ بعد.

وفي عمق تلك المياه، تُرسم الخرائط وتُرقم النقاط ـ كمن يعيد كتابة مصائر بلد، صفحة بعد صفحة.

اليوم، بعد سنوات من التردد والتأجيل، يرسمّ لبنان مياهه مجدداً ـ مياها يُفترض أن تكون بوابة خلاص: غاز، نفط، تنمية وحياة.

مواعيد الترسيم

 • في 23 تشرين الأول 2025، أقرّ مجلس الوزراء اللبناني الاتفاقية مع جمهورية قبرص لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، استناداً لاتفاق أولي من 2007.

 • الاتفاق رسيّ عمليًا اليوم، 26 تشرين الثاني 2025، بتوقيع رسمي من رئيس الجمهورية اللبنانية جوزف عون ونظيره القبرصي نيكوس خريستودوليدس في القصر الجمهوري. ويمهد هذا الترسيم وفق ما أعلنت الحكومة، لبدء أعمال استكشاف الطاقة ـ غاز ونفط ـ في مياه لبنان الاقتصادية المشتركة مع قبرص. ومن بين البلوكات المعنية: “البلوك رقم 8” في المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية، حيث مُنحت رخص استكشاف وإنتاج بحسب ما اتخذته وزارة الطاقة من اجراءآت.

صدى الجغرافيا في السياسة

الاتفاقية ليست جديدة: الأساس وضع عام 2007، لكن رفضًا سياسيًا وحزبيًا وقتها أوقف تفعيلها. ولم يسلم الواقع الحالي من الانتقادات: خبراء من جميع القطاعات البحرية والقانون والحقوق يرون أن لبنان تنازل عن “مساحات بحرية فسيحة” عند اعتماد “خط الوسط” بين الشواطئ، بدل أن يسعى إلى ترسيم على أساس “مبدأ الإنصاف” (Equity) ـ ما قد يمنحه حصة أكبر.

كذلك، هناك قلق من أن الاتفاق تم مع قبرص قبل ترسيم الحدود مع دول مجاورة (لا سيما من الشمال / الشمال الشرقي)، ما قد يفتح الباب لتأويلات أو مطالبات لاحقة.

جزء من الانتقادات يقول إن “التوقيت جاء في لحظة استثنائية”: لبنان يرزح تحت أزمات اقتصادية وسياسية، وربما كان التسرع بدافع ضغط الوقت وليس بدافع تحقيق أقصى الحقوق.

البحر كمخزون ـ آمال ومجهول

 • يعطي الترسيم لبنان ـ من الناحية القانونية ـ "خطًا واضحًا" للمنطقة الاقتصادية الخالصة، ما يُمكن أن يشجّع شركات عالمية على التنقيب داخل المياه اللبنانية، ضمن أُطر قانونية واضحة. لكن الواقع حتى الآن: لم تُعلن أي “اكتشافات تجارية” مؤكدة في البلوكات اللبنانية ـ أي أن الأمل في الغاز أو النفط لا يزال رهن المسوحات، الحفر، والاستثمارات الكبيرة.

أمام هذا الفراغ، البحر لا يزال يشكل “رمز انتظار”: لسكان الساحل، لفقراء المدن، لكل من يعاني من العتمة، أزمة المحروقات، انهيار العملة… إنه وعد لم يُنجَز بعد.

برميل من الطموح أم شبح النزاع؟

بعض الأصوات تحذّر من أن الترسيم مع قبرص ـ في غياب ترسيم مع دول مجاورة كسوريا وتركيا خصوصًا في الحدود الشمالية قد يُفتح لاحقًا كقضية نزاع على مساحات بحرية، بحسب تغيرات سياسية أو ضغوط إقليمية.

باتجاه الجنوب، ثمة من يخشى أن أي إشكال أو تغيير في الخرائط البحرية (أو تجديد للمطالبة من دول مجاورة) قد يعيد لبنان إلى نقطة الصفر، في وقت يعتمد فيه كثيرون على هذا الترسيم كمصدر أمل اقتصادي.

وعبر كل هذا، يبقى اللبنانيون ينتظرون نتائج ـ لا بل “كسور ضوء” ـ من أعماق البحر: لا وعود سياسية، لا عدالة توزيع، لا استقرار اجتماعي، بل حنين لفجر قد لا يطلع.

البحر لا ينسى

البحر ـ بهذه المياه الزرقاء العميقة ـ يحمل في طيّاته ما يشبه “سجل الأمل والرغبة”.

هو سكون وانتظار، هو خريطة نقاط معلّقة بين “تهديد” و”أمان”، بين “استكشاف” و”تخلّف”.

اليوم، مع توقيع الاتفاق، نأمل أن يُفتح فصل جديد: مفتاح لباب الاستثمار، أو ربما فخ للأحلام.

لكن اللبناني ـ في الشمال أو الجنوب، على شاطئ صيدا أو رأس الناقورة ـ لا يريد خريطة فقط.

يريد ضوء كهرباء، خبز، محرك يقل عمّله، مصروف أولاد، كرامة.

وإذا كان البحر سيعطي شيئًا: فليكن خلاصًا، لا خيبة.

المنشورات ذات الصلة