خاص – "ايست نيوز"
عبير درويش
في صباحٍ مزدحم في بيروت، يقف كريم (25 عاماً) أمام محل الخضار محاولاً احتساب مصاريف يومه بالدولار، فيما راتبه بالكاد يغطي نصف احتياجاته الشهرية. لا تبدو هذه اللحظة استثنائية؛ بل هي انعكاس يومي لواقع جيل كامل من الشباب اللبناني الذين يجدون أنفسهم في بلدٍ تتهاوى فيه العملة الوطنية، وتزداد الفجوة بين الدخل وكلفة المعيشة يوماً بعد يوم.
انهيار اقتصادي غير مسبوق
منذ عام 2019، يشهد لبنان أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه المعاصر. لقد فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها مقابل الدولار، مما تسبب في تضخم هائل وفقدان القدرة الشرائية للمواطنين. الناتج المحلي الإجمالي انكمش بأكثر من 38% منذ 2019، في حين تظل السياسات المالية والهيكلية دون إصلاحات جذرية تُنقذ الوضع .
أوضاع كهذه دفعت البنك الدولي إلى وصف الأزمة بأنها من بين أشد ثلاث أزمات عالمياً منذ القرن التاسع عشر.
رواتب لا تكفي… وكلفة معيشة خانقة
بالنسبة لكريم، ومعظم الشباب، لا يتجاوز متوسط الدخل الشهري 100–150 دولاراً، بينما ترتفع أسعار السكن، الغذاء، النقل والخدمات بأسعار تُسجَّل غالباً بالدولار. هذا التباين بين الدخل المتدني وتكاليف المعيشة المرتفعة يجعل حتى الاحتياجات الأساسية تحدياً يومياً.
بحسب بيانات اليوم، ارتفع معدل البطالة بشكل حاد، ولا سيّما بين الشباب، حيث يُقدَّر أن أكثر من 45% من الشباب عاطلون عن العمل.
اقتصاد التأقلم: وظيفة واحدة لا تكفي
في ظل هذا الواقع، يجد الشباب أنفسهم مُجبرين على التفكير خارج إطار «الوظيفة التقليدية». يعمل كثيرون في وظائف متعددة، إلى جانب العمل الحر عبر الإنترنت أو التجارة على منصات مثل إنستغرام وتيك توك، في محاولة لتحقيق دخل يغطي احتياجاتهم اليومية.
هذه الظاهرة تُظهر قدرة هذا الجيل على الابتكار والتكيف في مواجهة الفوضى الاقتصادية، ولكنها في الوقت نفسه تسلط الضوء على هشاشة النموذج الإنتاجي وعدم وجود سياسات دعم رسمية.
ضغط نفسي متصاعد… ومستقبل ضبابي
الأزمة الاقتصادية تحوّلت إلى أزمة نفسية واجتماعية. يعبر كثير من الشباب عن شعور بالقلق الدائم والإحباط، إذ يشعرون بأن حياتهم «معلقة» وأن طموحاتهم مجمّدة بلا أفق واضح للمستقبل. ارتفاع تكاليف المعيشة وعدم استقرار الدخل يزيدان من مستويات القلق والاكتئاب لدى فئات واسعة من الشباب.
الهجرة: خلاص أم هروب؟
لم تعد الهجرة خياراً ثانوياً، بل باتت حلماً يسعى إليه كثير من الشباب للبقاء على قدميهم وتحقيق مستوى حياة أفضل. كشف استطلاع حديث أن نسبة كبيرة من الشباب لا يجدون عملاً مستداماً خلال 12 شهراً، وأن من أكبر أولوياتهم العودة إلى فرص عمل مستقرة أو مغادرة البلاد تماماً.
هذا النزيف البشري يشكل تهديداً طويل المدى لقدرات لبنان على التعافي ويفاقم فجوة الكفاءات والمهارات الحيوية في المجتمع.
آراء الخبراء: تحليل الأزمة وآفاق الحل
يؤكد إرنستو راميريز ريغو، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في لبنان، أن الخطوات الحالية غير كافية لمعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي يواجهها البلد. ويشدد على أن استراتيجية شاملة لإعادة التأهيل الاقتصادي ضرورية لاستعادة النمو وتقليل البطالة وتحسين الظروف المعيشية.
خبراء اقتصاد لبنانيون
يُشير ناصر سعيدي، وزير اقتصاد سابق إلى أن استمرار النزاعات، وخاصة في حال اتساع نطاق الحرب مع إسرائيل، قد يؤدي إلى انكماش إضافي في الاقتصاد يصل إلى خمسة وعشرين بالمئة في 2024، ما يزيد من معاناة الشباب والبطالة.
هيكلية الاقتصاد وأسباب الأزمة
يربط العديد من الخبراء تعميق الأزمة بـهيكلية الاقتصاد اللبناني نفسها: اعتماد كبير على الخدمات والقطاع المصرفي، اعتماد شبه كامل على الواردات، عدم وجود قاعدة صناعية قوية، وغياب سياسات إنتاجية حقيقية. هذه العوامل جعلت الاقتصاد هشاً وغير قادر على التكيّف مع الصدمات الكبرى أو خلق فرص عمل واسعة.
نحو أمل جديد؟ بين التحديات والفرص
رغم الظروف القاسية، يُظهر شباب لبنان قدرة ملحوظة على الابتكار والتكيف. من العمل عن بُعد مع شركات عالمية، إلى إطلاق مشاريع صغيرة، إلى مبادرات اجتماعية تدعم مجتمعات محلية — هذه كلها مؤشرات على قدرة الجيل الجديد على مواجهة الأزمة من داخلها.
لكن هذه الجهود لا بد أن تصاحبها سياسات اقتصادية واجتماعية جذرية تضمن توفير فرص عمل منتجة، دعم الشركات الصغيرة، تشجيع الاستثمار المحلي، وإعادة بناء الثقة في المؤسسات الاقتصادية.
الخلاصة
شباب لبنان اليوم يعيشون على مفترق طرق: بين بقاء اقتصادي مرهق، وطموح لبناء مستقبل أفضل. الأزمة لم تُنهِ أحلامهم، لكنها اختبرت صمودهم وقدرتهم على التحمل. والسؤال الأكبر يبقى: هل سيجد لبنان السياسات والإرادة اللازمة لإعطاء هذا الجيل فرصته الحقيقية؟