خاص- "ايست نيوز"
هازار يتيم
بين أضواء بيروت المتلألئة وزينة الشوارع الباهظة الثمن، يعيش آلاف الأطفال اللبنانيين عالمًا آخر، عالم الفقر والحرمان الذي يختبئ خلف البهرجة والاحتفالات. ففي حين تتحوّل العاصمة إلى لوحة احتفالية أنفقت عليها ملايين الدولارات، يكافح العديد من الأهالي لتأمين أبسط احتياجات أطفالهم، من ملابس العيد إلى ألعاب بسيطة أو لحظات من الفرح البريء. هذا التناقض الصارخ بين مظاهر البذخ وواقع الحياة اليومية يطرح سؤالًا محوريًا: كيف يعيش الطفل شعور الحرمان في مناسبة يفترض أن تكون رمزًا للفرح والاحتفال؟ وما الدور الذي يلعبه الأهل والمجتمع في حماية الأطفال من آثار الفقر النفسية والاجتماعية؟
في لبنان، لم يعد الفقر مجرد أزمة اقتصادية، بل تجربة حياتية يومية يختبرها الأطفال. ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة يحولان دون قدرة العديد من الأسر على تلبية أبسط احتياجات أبنائهم خلال الأعياد، من ملابس جديدة إلى ألعاب رمزية أو حتى الخروج إلى أماكن الترفيه.
في حديث خاص لـ"إيست نيوز" تناول الدكتور أحمد العويني المتخصص في علم النفس التربوي، واقع الأطفال المحرومين في لبنان، موضحًا انعكاس الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة على صحتهم النفسية وسلوكهم، ومسلطًا الضوء على الفروق الدقيقة في تجارب الحرمان، ودور الأسرة والمجتمع في التخفيف من حدّتها.
فئتان من الأطفال… وكيف يشعر كل منهما بالحرمان
أكد العويني في مستهل حديثه ضرورة التمييز بين فئتين من الأطفال على الشكل التالي:
الفئة الأولى: الأطفال الذين يعيشون في أحياء فقيرة بشكل عام، مثل مناطق القبة في طرابلس، حيث يُسعدهم أبسط الأمور، كقطعة ملابس أو لعبة صغيرة أو حتى وجبة بسيطة. فهذه الهدايا الرمزية تحدث أثرًا إيجابيًا واضحًا في نفوسهم، وتكون مصدر فرح كبير، خصوصًا خلال فترات الأعياد.
وأضاف: "فرحتهم تتجلى بشكل خاص في اللعب خارج المنازل أو في الملاهي المؤقتة التي تُقام خلال المناسبات. غالبًا لا يشعر هؤلاء الأطفال بالحرمان بشكل مباشر أو دائم، ويستمتعون بلحظاتهم البسيطة دون حدود".
أما الفئة الثانية، فتظهر فيها مشاعر الحرمان بشكل أكبر في البيئات التي يسودها التفاوت الاجتماعي، مثل المدارس أو الأحياء المختلطة. هنا، يبدأ الطفل المحروم بالشعور بالإحباط والدونية، ويقارن نفسه بالآخرين الذين يمتلكون إمكانات مادية أفضل، ما يولد شعورًا بالوحدة وانخفاض تقدير الذات.
وأشار العويني إلى أن هذه المشاعر غالبًا ما تدفع الطفل إلى توجيه اللوم إلى والديه مضيفا ان "الطفل لا يفهم سبب عدم توفر الملابس الجديدة أو عدم القدرة على التزيّن، ومع غياب إجابات واضحة، يختار أن يلوم والديه على ما يمرّ به".
المقارنات الاجتماعية وتأثيرها على الأطفال
عند سؤال الدكتور العويني عن تأثير المقارنات بين الأطفال، أكد: "حتى المقارنات داخل الأسرة الواحدة قد تؤدي إلى مشكلات نفسية، فكيف إذا كانت بين طفل محروم وآخر يحصل على كل ما يرغب فيه؟ هذا يولّد شعورًا بالوحدة، وانخفاضًا في تقدير الذات، ويصاحبه الغضب واللوم وسائر الآثار النفسية السلبي".
دور الأهل في مواجهة آثار الحرمان
وأكد العويني أن الدور الأساسي يقع على عاتق الأهل حين يكون الوالدان على قدر من الوعي، يصبح من الضروري ألا يشعروا أبنائهم بالدونية، وألا يلغوا مشاعرهم أو يستخفوا بها، يجب التعامل مع الأطفال على أنهم قادرون على الفهم، وأن همومهم مهمة مهما كانت ضغوط الحياة"..
وأشار إلى أن المشكلة تتفاقم غالبًا بسبب قلة الوعي وضعف المستوى التعليمي، إضافة إلى كثرة الإنجاب، ما يؤدي إلى نشوء حلقة مفرغة تتكرر من جيل إلى آخر، معتبرًا أن هذه الظاهرة تمثل مشكلة اجتماعية وثقافية عميقة الجذور.
مع ذلك، شدد العويني على إمكانية تعويض جزء من الحرمان عبر الرعاية العاطفية والوقت النوعي مضيفاً الأهل يمكنهم الاستماع إلى أبنائهم، والمشاركة في اللعب، واحتضانهم نفسيًا. الجمال في الحياة لا يرتبط بالمال، بل بالسعادة التي نصنعها من التفاعل العائلي والألعاب البسيطة والنزهات غير المكلفة".
العلامات النفسية للحرمان وكيفية التعامل معها
تطرّق العويني إلى العلامات النفسية والسلوكية التي قد تظهر على الأطفال، مشيرًا إلى أنها غالبًا شبيهة بأعراض الاكتئاب، مثل الانعزال، والحزن، وكثرة اللوم، مع تغيّر واضح في المزاج والعصبية. وقد يرفض الطفل محيطه الأسري، ويصبح أكثر انفعالًا، مبيّنًا أن ذلك يرتبط بدرجة وعي الأهل وقدرتهم على التواصل، واستعدادهم لتقديم الدعم العاطفي اللازم.
وأكد أن الأهل، حتى في ظل الفقر، يستطيعون خلق أجواء دافئة مليئة بالضحك والمزاح واللعب، فهذه اللحظات تحمل قيمة كبيرة في حياة الطفل، إذ إن سعادته لا ترتبط دائمًا بالماديات، بل بالذكريات الجميلة واللحظات الإنسانية الصادقة.
أمل وحلول مؤقتة
وأشار العويني إلى دور الجمعيات والمنظمات غير الحكومية في توفير لحظات فرح للأطفال خلال الأعياد، مؤكدًا أن الحرمان ليس مطلقًا، فالعديد من المؤسسات تنظم أنشطة ترفيهية وتقدم هدايا رمزية، ما يمنح الأطفال استراحة قصيرة من الواقع المعيشي القاسي.
وختم حديثه بالقول: «كما يُقال في أحد الأمثال الغربية، أجمل الأشياء في الحياة هي الأشياء المجانية».
لحظات صادقة.. تصنع عيدًا كاملًا
في ظل هذه الظروف، الطفل لا يتذكر قيمة الهدايا بقدر ما يتذكر دفء البيت ووقت العائلة والشعور بالأمان. أبسط لحظة صادقة بين الأهل وأطفالهم قد تصنع عيدًا كاملًا، حتى في غياب الإمكانيات المادية.