عاجل:

حين تُسمَّم لقمة الناس: جريمة منظَّمة والسياسة شريك صامت وفاعل أحيانًا (خاص)

  • ١٤٤

خاصّ- "إيست نيوز"

جوي ب. حداد

لم يعد الحديث عن صحّة المواطن في لبنان ترفاً إعلامياً ولا مادّة موسمية تُستحضَر عند كل فضيحة ثم تُنسى. ذلك أن ما نشهده اليوم أخطر من ذلك بكثير. فنحن أمام انكشاف كامل لمنظومة جريمة منظَّمة، تُدار بوقاحة، وتُمارَس تحت أعين الجميع، وتجد دائماً من يحميها سياسياً وطائفياً، فيما تُترك صحّة الناس معلّقة على بيانات ومُداهمات عابرة.

خلال أسابيع قليلة فقط، انفجرت سلسلة وقائع لا يمكن فصلها عن بعضها: أطنان من المواد الغذائية الفاسدة والمُنتهية الصلاحية، ومُستودعات مليئة بمُنتجات مزوّرة، وآلات لتزوير تواريخ الصلاحية، وبهارات مخلوطة بالنشارة ومواد مجهولة المصدر، ومُكمّلات غذائية مُهرّبة بلا أي رقابة، وصولًا إلى حالات تسمّم جَماعي طالت عشرات المواطنين، بينهم أطفال وراهبات. مشاهد صادمة، لكنها للأسف ليست استثنائية، بل تعود إلى الواجهة كلما فاض الكيل أو كُشف المستور.

هذه الوقائع ليست مُصادفات، ولا أخطاء فردية، بل مؤشّرات مُتراكمة على انهيار شبه كامل لمنظومة حماية الغذاء في لبنان، من الاستيراد إلى التخزين، ومن الإنتاج إلى العرض في الأسواق.

الغذاء كجريمة منظَّمة

في لبنان، لم يعد الغذاء مسألة إنتاج واستهلاك، ولا حتى أزمة رقابة فحسب، بل تحوّل إلى ساحة ربح أسود. تاجر يشتري الأرخص، يزوّر التاريخ، يخلط الفاسد بالسليم، ويضخّه في السوق بلا خوف. لماذا؟ لأنه يعرف أنّ هناك من يغطّيه، ومن يتدخّل عند الحاجة، ومن “يُسوّي” الملفّ إذا كبر.

هنا، لا يعود الحديث عن مُخالفات أو تجاوزات، بل عن جريمة مكتملة الأركان بحق الصحّة العامة. فالتسمّم ليس قدَراً، بل نتيجة مباشرة لجشع محمي، ولمنظومة تسمح بأن يتحوّل الإنسان إلى رقم، والمرض إلى كلفة جانبية في ميزان الأرباح.

السياسة شريك صامت: وأحيانًا فاعل

البلاء الأكبر في لبنان ليس فقط وجود تجّار فاسدين، فهؤلاء موجودون في كل دول العالم، بل أن كل فاسد تقريباً محمي سياسيًا أو طائفيًا. هذا هو السرّ الذي يعرفه الجميع ويتجاهله الجميع. المستودع لا يعمل وحده، والتهريب لا يمرّ صدفة، والتزوير لا يستمرّ لسنوات من دون شبكة أمان.

في دولة تحترم نفسها، تُقفل هذه المؤسّسات نهائيًا، يُسجن أصحابها، تُصادَر ممتلكاتهم، وتُنشر أسماؤهم على الملأ. أمّا في لبنان، فغالبًا ما تتحوّل القضايا إلى أخبار عابرة، تُدفن مع الوقت، ويُعاد فتح المستودع باسم جديد، أو في منطقة أخرى، أو تحت حماية جديدة، وكأنّ صحّة الناس لا تعني أحداً.

الضحية الدائمة: مواطن

المواطن اللبناني هو الحلقة الأضعف دائمًا. يشتري ما يستطيع لا ما يريد. لا يملك مختبرًا ليفحص ما يضعه على مائدته، ولا قدرة حقيقية على المقاطعة، ولا ثقة بالسوق. يُترك ليواجه المرض وحده في بلد انهار فيه الضمان الصحي، وارتفعت كلفة العلاج، وتراجعت قدرة المستشفيات.

الأخطر أنّ هذا الاستهتار لا يهدّد الأفراد فقط، بل يضرب الأمن الغذائي برمّته، ويقوّض ما تبقّى من ثقة الناس بأي سلعة، وبأي رقابة، وبأي دولة. وحين يفقد المواطن ثقته بلقمة عيشه، يكون الانهيار قد بلغ مرحلة لا عودة منها.

ما بعد الضبطيات؟

الضبطيات مهمّة، والمداهمات مطلوبة، لكنّها تبقى بلا قيمة فعلية إذا لم تُستكمَل بمحاسبة جدّية وشفافة. أقصى ما يواجهه التاجر الفاسد اليوم هو إقفال مؤقّت أو غرامة تُنسى، فيما تُدفن الملفّات عند أول تدخّل سياسي.

حين تعرف الدولة وتغضّ النظر، يصبح الصمت تواطؤًا، ويصبح التقاعس شراكة غير مباشرة في الجريمة. فلا قيمة لأي حملة، ولا لأي بيان، إذا بقيت الحماية السياسية خطاً أحمر لا يُمسّ.

السؤال الذي يفضح الجميع

وأمام هذا المشهد الفاضح، وفي هذا الزمن القصير تحديدًا، لا يعود السؤال تقنياً أو صحيًا فقط، بل أخلاقياً ووجودياً:

هل يُعقل أن تشهد دولة واحدة، خلال أسابيع، هذا العدد من حالات التسمّم، وهذه الكميات الهائلة من المواد الغذائية الفاسدة؟

أم أنّ الحقيقة أبسط وأخطر: في لبنان، التاجر المحمي أقوى من صحّة المواطن، والسياسة اختارت أن تحمي الجريمة وتترك الناس تدفع الثمن؟

لأنّ صحّة المواطن اللبناني ليست سلعة، ولا ملكاً للتجّار، ولا تفصيلًا يمكن التفاوض عليه.

وحين تعجز الدولة عن حماية لقمة شعبها، تصبح شريكة في الجريمة، مهما كثرت بياناتها وتعدّدت ضبطياتها.


المنشورات ذات الصلة