بعد أربعة أعوام من الانتعاش والنشاط المحموم للطروحات العامة الأولية في أسواق منطقة الخليج والشرق الأوسط، بدأت فورة هذا الانتعاش تفقد الزخم، ما دفع بعض الشركات إلى تأجيل طرح أسهمها للاكتتاب العام أو إلغاء الطرح في بعض الأحيان، نتيجة لعزوف المستثمرين خاصة الأفراد عن المشاركة في هذه الطروحات، في ظل التدقيق في التقييمات، والعودة القوية إلى الطروحات في الولايات المتحدة وآسيا.
وتراجع حجم الطروحات في الخليج إلى أدنى مستوى منذ الجائحة خلال الشهور الماضية، إذ أصبح المستثمرون أكثر انتقائية بشكل ملحوظ، إضافة إلى تلاشى المكاسب التي كانت تسجلها أسعار الأسهم عادة في اليوم الأول من التداول، بل إن بعضها أصبح يفتتح أول تعاملاته في السوق على انخفاض دون سعر الطرح.
يأتي هذا الفتور، بعد أن مثّلت منطقة الخليج نقطةً مضيئةً نادرة خلال السنوات الماضية، بدعم من عمليات الخصخصة التي تجريها الحكومات، وجهود لتعميق أسواق رأس المال المحلية، إلا أن تراجع أسعار النفط بدأ يخيم على آفاق النمو في الشرق الأوسط، لا سيما في السعودية.
في الوقت نفسه، ومع تزايد نشاط الطروحات الأولية في أسواق أخرى، فإن المنطقة التي ازدهرت خلال نُدرة الطروحات العالمية، باتت فجأة تواجه منافسة.
ويقول تقرير لوكالة بلومبرج، إن التغير الأشد وضوحًا هذا العام هو الانخفاض الحاد في حجم الطروحات الأولية على مستوى الخليج، إذ انخفضت حصيلة الطروحات في المنطقة بأكثر من النصف، من 13 مليار دولار إلى أقل من 6 مليارات دولار في 2025.
في السعودية، أُلغي طرح أسهم “إي إف إس آي إم” لعوامل من بينها تراجع الطلب في السوق بشكل عام، ورغم ذلك، استقرت حصيلة الطروحات الأولية في المملكة مقارنةً بالعام الماضي عند نحو 4 مليارات دولار، ما ساعد المملكة في استعادة لقب أنشط سوق للطروحات في الخليج، إلا أن مُعظم الصفقات كان مصدرها القطاع الخاص، مع إبطاء الحكومة وتيرة عمليات الخصخصة الضخمة.
أما في الإمارات، تراجعت الإدراجات بشكل كبير بعدما أدى الأداء الباهت لسهمي “لولو للتجزئة” و”طلبات” في أول يوم للتداول أواخر العام الماضي إلى توخي المستثمرين مزيدًا من الحذر، كما أرجأت “دوبيزل”، منصة الإعلانات المبوبة الإلكترونية مقرها في دبي، الطرح الأولي لأسهمها، في حالة نادرة للتراجع عن صفقة في الإمارات.
وشهدت سلطنة عُمان تراجعًا كبيرًا في النشاط، بعدما تفوقت على لندن لفترة وجيزة في حجم الطروحات الأولية في 2024.
يرى مدير خدمات الاستثمار المصرفية لدى “إي إف جي هيرميس” مصطفى جاد، أن الطروحات الحكومية تكون ضخمةً في العادة، ولم تكن السوق مهيأة لهذه الصفقات هذا العام، لذلك كان تأجيل الطروحات الضخمة فكرة في غاية الحكمة.
ويتضح تغير المعنويات أيضًا في حجم الصفقات، حيث شهد العام الماضي ثلاث طروحات أولية بنحو ملياري دولار، أما في 2025، كانت هناك صفقة وحيدة بقيمة مليار دولار من “طيران ناس”، فيما تجاوزت أربع صفقات فقط مستوى 500 مليون دولار.
أشار جاد إلى أن المستثمرين اتجهوا إلى الشركات الأصغر حجمًا، وأكثر بساطة، وذات بيانات مالية أوضح، مضيفًا “أي طرح تتجاوز قيمته 500 مليون دولار تبدأ صعوبته في التزايد. الناس لا يرغبون في التعامل مع الكثير من التعقيد”.
وظهر تحول حاسم آخر في الأداء، فبعدما أصبح ارتفاع السهم بأكثر من 30% في أول يوم للتداول سمةً مميزة للطروحات في الخليج، بدأت هذه الظاهرة في التراجع أواخر 2024، وتلاشت في 2025.
ففي السعودية، تحول متوسط مكاسب الطرح إلى السالب، ومن بين أكبر طروحات أولية في المملكة، يتداول سهمان فقط بأعلى من سعر الطرح، في ظل تراجع واسع النطاق للسوق، إذ كانت الأسهم السعودية من بين الأسوأ أداءً في الأسواق الناشئة هذا العام، بضغط من تراجع أسعار النفط، والمخاوف من أن يؤدي ذلك إلى خفض الإنفاق الحكومي.
كذلك، انخفض الطلب على الطروحات في الآونة الأخيرة، فغطت أوامر المؤسسات الاستثمارية اكتتاب “الرمز العقارية”، ومقرها في الرياض، 11 مرة فقط في وقت سابق من الشهر، بفارق كبير عن مستويات التغطية بأرقام ثلاثية التي كانت الوضع المعتاد قبل شهور.
وعلى الرغم من أن الطروحات الأولية في الإمارات حققت أداءً أفضل، لكن مؤشرات على الإرهاق بدأت تظهر هناك أيضًا، وكان أداء مؤشري الأسهم الرئيسيين في دبي وأبوظبي جيدًا نسبيًا بشكل عام، لكن المكاسب الفورية بالأرقام الثنائية لم تعد تتحقق.
ولفت مصطفى جاد إلى أن ذلك تصحيح مُرحّب به من منظور البعض، مضيفا “سيتأقلم الجميع مع فكرة أن ليست الطروحات كلها ستحقق ارتفاعًا بما بين 30% و40% في أول يوم للتداول، نتحول إلى سوق ناضجة”.