خاص - "ايست نيوز"
عصام شلهوب
يُعاد اليوم طرح فكرة استبدال جزء من الودائع المصرفية، ولا سيما تلك التي تفوق سقف المئة ألف دولار، بسندات تصدرها الدولة اللبنانية، على أنها مخرج تقني من الانهيار المالي الذي أصاب النظام المصرفي. غير أنّ هذا الطرح، مهما بدا مغلفًا بصيغة قانونية أو إصلاحية، يصطدم مباشرة بذاكرة جماعية مثقلة بالتجارب الفاشلة، وبسجلّ دولة تخلّفت عن سداد التزاماتها السيادية من دون أن تتحمل أي مساءلة فعلية.
وعلى هامش استكمال البحث في مجلس الوزراء اليوم بمواد القانون المنتظر كشفت مصادر واسعة الاطلاع لـ "ايست نيوز" ان هذا الخيار يستند الى منطق تحميل الدولة جزءًا من الخسائر المتراكمة، عبر تحويل حقوق المودعين من ودائع نقدية واجبة السداد عند الطلب، إلى أدوات دين طويلة الأجل، أي سندات خزينة أو صكوك مالية، يُفترض أن تُسدَّد لاحقًا وفق جداول زمنية تمتد لسنوات. لكن جوهر الإشكالية لا يكمن في الشكل القانوني للأداة، بل في الجهة الضامنة لها، وفي قدرة هذه الجهة وإرادتها على الوفاء بالتزاماتها.
عمليًا، إن سندات الخزينة ليست سوى وعد تصدره الدولة على نفسها. فهي دين سيادي لا يتمتع بأي ضمانة خارجية تلقائية، ولا تحميه جهة مستقلة، ولا تؤمّنه مؤسسة دولية ما لم يُربط صراحة باتفاق دولي ملزم. وفي الحالة اللبنانية، حيث الدولة نفسها أعلنت عجزها عن سداد ديونها الخارجية عام 2020 وتخلّفت عن دفع سندات اليوروبوندز، يصبح السؤال عن الضمان سؤالًا مشروعًا، بل مصيريًا.
لقد أثبتت التجربة أن الدولة اللبنانية، عند اشتداد الأزمات، تستطيع التوقف عن الدفع بقرار سياسي ـ مالي، من دون أن يكون لحملة السندات أي وسيلة فعلية لفرض حقوقهم. فالتخلّف عن سداد اليوروبوندز لم يكن حدثًا تقنيًا عابرًا، بل شكّل سابقة خطيرة أسقطت عمليًا مقولة “قدسية الدين السيادي”، ووجّهت ضربة قاسية لمفهوم الثقة بالدولة كمدين.
انطلاقًا من ذلك، فإن تحويل الودائع إلى سندات خزينة لا يعني استرداد الحق، بل تأجيله وربطه بمستقبل مالي وسياسي مجهول. فالمودع الذي يُطلب منه اليوم التخلي عن وديعته مقابل سند طويل الأجل، يُطلب منه فعليًا أن يراهن مجددًا على الدولة نفسها التي فشلت سابقًا في حماية أمواله، وعلى منظومة مالية أثبتت عجزها عن إدارة المخاطر أو الاعتراف بالخسائر بشفافية.
قانونيًا، لا يكفي إدراج هذا الاستبدال ضمن مشروع قانون، كقانون الفجوة المالية أو الانتظام المالي، لإضفاء ضمانة حقيقية على السندات. فالقانون، مهما بلغت صياغته، يبقى خاضعًا لقدرة الدولة على التنفيذ. وإذا لم تُرفق هذه السندات بنصوص واضحة تحدد أولوية سدادها، وآليات تمويلها، ومصادر تغطيتها، وآليات رقابة مستقلة على تنفيذها، فإنها تبقى أوراقًا مالية فاقدة لعنصر الأمان.
الأخطر من ذلك أن هذا الطرح قد يؤدي عمليًا إلى نقل الخسائر من ميزانيات المصارف ومصرف لبنان إلى كاهل المودعين أنفسهم، عبر تحويل أموالهم إلى ديون على دولة مفلسة. وهنا يصبح السند أداة لإدارة الخسارة لا لضمان الحق، ويغدو “الحل” المقترح مجرد إعادة تدوير للأزمة بصيغة قانونية جديدة.
إن الضمان الحقيقي لأي سند تصدره الدولة لا يُقاس بالنصوص وحدها، بل بثلاثة عناصر مترابطة: أولًا، ملاءة مالية فعلية وقدرة على توليد إيرادات مستدامة؛ ثانيًا، التزام سياسي واضح بعدم التنصل من الديون تحت أي ذريعة؛ وثالثًا، إطار قانوني يُخضع الدولة للمساءلة في حال الإخلال بالتزاماتها. وهذه العناصر الثلاثة لا تزال غائبة أو ضعيفة في الواقع اللبناني الراهن.
لذلك، فإن استبدال الوديعة بسندات دولة، في ظل غياب هذه الضمانات، لا يمكن اعتباره حلًا عادلًا أو مطمئنًا، بل خيارًا عالي المخاطر يُحمّل المودع مرة جديدة كلفة الانهيار. وهو خيار يعيد إنتاج السؤال نفسه الذي لم يُجب عنه أحد حتى الآن: كيف يمكن لمن تخلّف عن الدفع بالأمس أن يُقنع الناس بأن وعده اليوم سيكون مختلفًا؟