كتبت صحيفة "الخليج":
لم يكن العام 2025 هيناً على لبنان، إذ شهد البلد تحديات أمنية وسياسية واقتصادية كبيرة، تمثلت في استمرار التوترات على الحدود الجنوبية مع ضغوط خارجية، لاسيما من الولايات المتحدة التي تمارس ضغوطاً شديدة على بيروت لإرغامها على نزع سلاح «حزب الله» بما يحقق أمن إسرائيل التي لم توقف اعتداءاتها يوماً، ولا تزال تحتل خمسة تلال استراتيجية في الجنوب. ولم يمنع تغيير المشهد السياسي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وحكومة جديدة، من إحداث أي جديد على مختلف المستويات.
بداية العام 2025 كانت مع انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية ثم تشكلت حكومة جديدة برئاسة نواف سلام، الذي استقال فجأة من محكمة العدل الدولية ليتولى رئاسة الحكومة اللبنانية، وكأن في الأمر خطة مسبقة، تزامنت مع اتفاق وقف إطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل وعودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والتغيير المفاجئ للنظام في سوريا. ورغم التفاؤل النسبي الذي رافق تغير المشهد السياسي فإن الوضع لم يتغير، ودخلت الحكومة الجديدة أزمة سياسية معقدة بين أطراف متنافرة تاريخياً، وكل يريد فرض أجندته حسب مصالحه وحساباته. ولاقى تكليف سلام بتشكيل حكومة جديدة، ترحيباً دولياً، مع آمال في تنفيذ إصلاحات جذرية لمعالجة الأزمات المتراكمة.
حكومة ووعود وتحديات
وقد باشرت حكومة سلام عهدتها بإطلاق تعهدات ووعودٍ عالية السقف، منها إقرار قوانين تتعلق بالسرية المصرفية تحت ضغط صندوق النقد الدولي، وإقرار زيادة في الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص إلى 28 مليون ليرة لبنانية، وأجْرت بعض التغييرات التقنية والإجرائية في إدارة مطار رفيق الحريري الدولي في إطار المماحكات الداخلية ضد «حزب الله» المتهم بالسيطرة على المطار، فيما بقي التوتر والتنافر بين الأحزاب قائماً.
وبعد مرور ما يقرب من عام على تغير المشهد السياسي، ظل التقدم في معظم الإصلاحات الهيكلية العميقة بطيئاً ومحدوداً، ولم ينفذ إلا القليل منها. ورغم التوقعات بنمو اقتصادي طفيف، لا يزال لبنان يعاني أزمة اقتصادية حادة مع ارتفاع في نسبة الفقر (حوالي 33% تحت خط الفقر). أما الشلل السياسي فقد ظل على حاله، وربما أسوأ من العهود السابقة، فالجمود مازال قائماً إلى حد كبير، ما يعرقل عملية الإصلاح الشاملة والضرورية لجلب الدعم الدولي المستمر واستعادة ثقة المستثمرين والمواطنين. وبالمجمل فقد حققت هذه الحكومة بعض الخطوات الإدارية والقانونية، لكن الاستحقاقات الكبرى المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي الشامل والسيادة الكاملة للدولة لم تتحقق بعد، وتواجه عقبات سياسية وأمنية جمة.
سلوك إسرائيلي جائر
على مدار العام استمرت الاعتداءات الإسرائيلية والقصف على طول الحدود الجنوبية وصولاً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع والهرمل، ما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين وأضرار مادية في حرب استنزاف طويلة تخللتها استهدافات لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) التي ستنتهي مهمتها أواخر العام الجديد 2026، بفعل ضغوط أمريكية وإسرائيلية للتخلص من هذه القوة التي رافقت لبنان طيلة 48 سنة. وبدت في الفترة الأخيرة عاجزة عن تطبيق قرار مجلس الأمن 1701، وعجزت عن فرض اتفاق وقف الأعمال العدائية الجديدة المبرم في 27 نوفمبر 2024، والذي كان من المفترض أن يتبعه انسحاب إسرائيلي كامل بحلول فبراير 2025، إلا أن إسرائيل رفضت الانسحاب، واستمرت في انتهاك الاتفاق دون رادع، وسط مؤشرات جدية عن عودة محتملة للتصعيد مع تهديدات إسرائيلية جديدة أكدها وزير خارجية لبنان يوسف رجي، الذي قال إن بيروت تلقت تحذيرات عربية ودولية من هجوم إسرائيلي واسع بهدف نزع سلاح «حزب الله». ووفقاً للتقارير الصادرة عن قوة الأمم المتحدة المؤقتة فى لبنان (اليونيفيل) وعدد من الهيئات الدولية والإخبارية، فقد تجاوزت الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان 10000 خرق منذ 27 نوفمبر 2024، نتج عنها نحو 340 قتيلاً و960 مصاباً، وفق ما ذكرت وزارة الصحة اللبنانية أواخر الشهر الماضي.
ضغوط أمريكية وابتزاز
خلال أشهر العام دفعت السلطة اللبنانية بقطبيها، رئاستي الجمهورية والحكومة، بخطة «حصر السلاح» تحت ضغط خارجي هائل، لتتشكل بذلك سردية تقول إن سلاح «حزب الله» يمثل عقبة رئيسية أمام بسط سيادة الدولة الكاملة وحصر السلاح في يد المؤسسات الشرعية. وفي الخامس من أغسطس 2025، أقرت الحكومة اللبنانية قراراً استراتيجياً يقضي بوجوب حصر السلاح في يد الدولة، رغم اعتراض وزراء «حزب الله» و«حركة أمل»، وبعد ذلك بشهر (في سبتمبر) وافقت الحكومة على خطة قدمها قائد الجيش، العماد رودولف هيكل، لتنفيذ هذا القرار على مراحل، بدءاً من منطقة جنوب الليطاني. وأعلن الجيش اللبناني أنه أنجز أكثر من 80% من مهام المرحلة الأولى من خطة «درع الوطن» لحصر السلاح في جنوب الليطاني، وفكك هناك أكثر من 500 موقع عسكري، ومن المقرر أن يقدم الجيش تقريره النهائي لمجلس الوزراء مطلع عام 2026، مع اقتراب نهاية المهلة المحددة بنهاية ديسمبر 2025. ومؤخراً طرح نواف سلام مقترحاً أولياً لإحضار مندوبين عسكريين من دول صديقة لمرافقة الجيش اللبناني في جولاته للتحقق من مهمة حصر السلاح في الجنوب. وكثفت الولايات المتحدة ودول أخرى جهودها الدبلوماسية للضغط على لبنان وإسرائيل لتجنب توسع الصراع. وتضمنت هذه الجهود إيفاد مبعوثين وزيارات لمسؤولين دوليين، مثل رئيس مجلس الأمن الذي زار بيروت في ديسمبر الجاري، وذلك غداة زيارة تاريخية أداها البابا ليو الرابع عشر، بابا الفاتيكان، إلى لبنان، وقد حظيت بحفاوة رسمية وشعبية واسعة، لكن نتائجها ظلت متواضعة.
ورغم الضغوط الخارجية، خاصة الأمريكية- الإسرائيلية، تواجه الخطة صعوبات كبيرة، وهناك شكوك جدية في استكمالها، إذ ما زال «حزب الله» وحليفته حركة «أمل» يرفضان دعوات الحكومة بحصر السلاح في يد الدولة، ويعتبر الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، أن هذه الصيغة هي «مطلب أمريكي إسرائيلي» يستهدف «إعدام قوة لبنان»، وتؤكد أوساط لبنانية عدة، بما فيها أطراف على خلاف تاريخي مع «حزب الله»، أن الحزب لن يسلم سلاحه «إلا بقرار إيراني» كما صرح بذلك يوسف رجي مرات عدة، في تأكيد على أن قضية «حصر السلاح» تشكل نقطة خلاف سياسية عميقة ومستمرة، وربما خطيرة على استقرار لبنان.
حل المفاوضات المحدودة
بعض السيناريوهات السيئة تحاول السلطات اللبنانية تفاديها بالوسائل الدبلوماسية، إذا أعلن الرئيس جوزيف عون أن لبنان اعتمد خيار المفاوضات مع إسرائيل لتجنب جولة عنف إضافية. ودخل لبنان وإسرائيل في مفاوضات غير مباشرة حول الحدود وقضية السلاح، وأكد عون أن هدف المفاوضات هو وقف الاعتداءات. للمرة الأولى منذ عقود أوكل لبنان مدنياً هو السفير سيمون كرم ليفاوض سفيراً إسرائيلياً هو أوري رازنيك للتفاوض في الناقورة، وذلك ضمن اجتماع لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية المعروفة ب«الميكانيزم»، وتجمع لبنان وإسرائيل وقوات «اليونيفيل»، تحت رعاية أمريكية-فرنسية، بهدف مراقبة تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية، ولكن هذه اللجنة لا تتابع الخروقات الإسرائيلية، بل تكاد مهمتها تنحصر في الضغط والمطالبة بنزع سلاح «حزب الله»، وهو مطلب إسرائيلي بالأساس، يتصل برؤية يراد تنفيذها في المنطقة. لذلك إن فرص نجاح هذه المفاوضات محدودة، ولا يبدو أن بإمكانها إنهاء حالة الحرب، والأرجح أن إسرائيل ستقدم على تنفيذ تهديداتها بالتصعيد ضد لبنان بذريعة أنه لا تفعل ما يجب فعله لتطبيق «حصر السلاح».
حال علاقة لبنان مع الجار الإسرائيلي لم تتغير، فالعداوة مستفحلة ولا أفق لها غير ذلك، أما علاقته بالجار العربي والتاريخي من الشرق والشمال المتمثل في سوريا، فليست على ما يرام بالمطلق، بعد التحول الجذري في سياسة دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد، الذي أحدث تداعيات لم تكن متوقعة على لبنان، خصوصاً أن السلطات السورية الجديدة، وبسبب خلفياتها المعروفة لا تُكِنُّ وداً لبعض الأطراف اللبنانية ومنها «حزب الله»، وهو ما خلق تحديات أمنية، إضافة إلى القضايا العالقة بشأن ترسيم الحدود، وملف المعتقلين، وتأثيرات ما بعد الصراع الأهلي.
انقلاب على الحدود الشرقية
منذ الإطاحة بالأسد طرأت تغيرات تاريخية على العلاقة بين بيروت ودمشق، أفرزت مشكلات قديمة كانت مسكوتاً عنها في السابق وأصبحت اليوم مثار تأزم، بعدما توقف عمل المجلس الأعلى اللبناني-السوري، فيما لا يزال ملف المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية عالقاً، وتطالب دمشق بحلّه، ما يسبب ضغطاً على بيروت. كما لم يتم التوصل إلى تسوية نهائية لترسيم الحدود البرية، رغم وجود لجان مشتركة تعمل على متابعة هذا الملف. وقد اجتمع المسؤولون في البلدين مرات عدة، إذ التقى رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في دمشق والدوحة، بهدف «تصحيح مسار العلاقات» وتعزيز التعاون، لكن لا شيء عملياً تحقق حتى الآن.
رغم ما يبدو في ظاهر الصورة من سعي سوري لبناني لترسيخ علاقة جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والسيادة، لا يزال المسار معقداً بفعل الإرث السابق والتحديات المستمرة، إضافة إلى تدخلات أطراف أخرى تحاول تسميم الأجواء، مثل ما صدر عن المبعوث الأمريكي إلى سوريا توماس باراك الذي حرض أكثر من مرة على ضم لبنان إلى سوريا إذا لم يعالج مسألة سلاح «حزب الله»، وهي تصريحات رأى فيها البعض جزءاً من توجه لتفخيخ العلاقة بين البلدين، ودفعها إلى سيناريوهات جهنمية.
بيروت وطهران.. علاقة متوترة بلا أفق
مثلما أصيبت العلاقة القديمة بين بيروت ودمشق بتحول جذري، أخذت العلاقة بين بيروت وطهران منحنى مختلفاً ودقيقاً يتسم بتوتر سياسي غير مسبوق ومواجهة متنامية تحركها حسابات قديمة بين أطراف لبنانية تناوئ أطرافاً أخرى محسوبة على إيران مثل «حزب الله»، وترى في التغيير في سوريا والصراع العنيف بين إيران وإسرائيل فرصة للانقضاض على هذه اللحظة، رغم أن مدى النجاح نسبي وقد يرتد بنتائج عكسية تماماً.
منذ تشكلها، رفعت الحكومة اللبنانية، ممثلة برئيس الوزراء نواف سلام ووزير الخارجية يوسف رجي، سقف المواجهة السياسية مع طهران، مطالبةً بضرورة أن تقوم العلاقات بين البلدين على مبدأ الاحترام المتبادل لسيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية. وشهد العام المنقضي محطات متوترة مثل قرار الحكومة اللبنانية في فبراير الماضي منع هبوط الطائرات الإيرانية في مطار بيروت، وردت إيران بالمثل. كما علّق لبنان مؤخراً اعتماد سفير إيران الجديد، ما يعكس مستوى الأزمة. ويتساوى هذا التوتر مع ضغوط أمريكية وإسرائيلية لقطع الدعم الإيراني ل«حزب الله» والضغط عليه لنزع سلاحه حتى لا يكون هناك تهديد من لبنان لدولة الاحتلال. ورغم هذه الجبهة العريضة من الضغوط والتهديدات، لا يزال النفوذ الإيراني حاضراً لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، وهو ما يجعل العلاقة بين البلدين معقدة للغاية وتتسم بازدواجية، وتضع لبنان في حالة استقطاب سياسي وأزمة مستمرة، قد تواجه تحديات كبيرة في ظل المتغيرات السياسية اللبنانية والإقليمية المسارعة.
اقتصاد متعثر وآليات معطلة وتحديات مزدوجة
واصل الاقتصاد اللبناني مواجهة ركود وتحديات مزدوجة، مع ارتفاع في تكاليف المعيشة وتضخم مستمر، رغم ما شهده العام المنقضي من تفاؤل حذر مع مؤشرات نمو متواضعة (حوالي 4.7-5%، مدعوم بالسياحة والاستهلاك)، لكنه يواجه تحديات هيكلية كبرى، خاصة في القطاع المصرفي المتعثر، وغيابَ إصلاحات جذرية، وتأثراً بالصراعات الإقليمية، وهو ما يجعل هدف التعافي بعيداً نسبياً، ويتطلب إصلاحات شاملة وإعادة هيكلة للمصارف. أشار البنك الدولي إلى أن نحو 16.6% من سكان لبنان يعيشون تحت خط الفقر المدقع في عام 2025.
وحاولت السلطات في العام المنصرم إقرار مجموعة واسعة من القوانين الإصلاحية المؤجلة منذ سنوات طويلة، شملت تعديل قانون السرية المصرفية، وإقرار قانون إعادة هيكلة المصارف، وإنشاء الهيئات الناظمة لقطاعات الكهرباء والطيران المدني والاتصالات، إضافة إلى الاقتراب من إنجاز الإطار العام لقانون توزيع الخسائر المرتبط بما يُعرف بالفجوة المالية. وقد عكست هذه الخطوات استجابة شكلية لمطالب المجتمع الدولي، إلا أنها بقيت محصورة في الإطار التشريعي من دون ترجمة عملية ملموسة على أرض الواقع. كما أظهر الأداء الحكومي استمرار الفجوة بين التشريع والتطبيق، إذ لم تنعكس القوانين المقرّة تحسناً فعلياً في ثقة المجتمع الدولي أو في واقع المودعين والاقتصاد الحقيقي. وقد أعاد هذا المشهد إنتاج تجربة سابقة عرفها لبنان منذ مؤتمرات باريس، حيث جرى مراراً إقرار إصلاحات تحت ضغط الانهيار، من دون تنفيذ فعليّ لها، ما أفقدها جدواها وأضعف مصداقية الدولة.