عاجل:

لبنان على عتبة الـ 2026 …جمهورية تتغير أزماتها ولا يتغيّر نظامها (خاص)

  • ٣١

خاص- "ايست نيوز"

عصام شلهوب

يعيش لبنان فوق سكة لا تنحرف مهما تكسّرت العجلات، وكأنّ الانهيارات المتلاحقة لم تكن سوى خلفية إضافية لمسرح قديم يعيد تقديم العرض نفسه كل ليلة. في لبنان اليوم، لا تتبدّل السلطة بقدر ما تتبدّل أدواتها، ولا تتغيّر المعارك بقدر ما تتغيّر مفرداتها، فيما النظام يواصل أداء دوره الأبديّ: دولة تُفرغ من مؤسساتها، وتُدار بميزان الصفقات، وتتنفّس من رئتي الرذيلة والجريمة وكأنهما وقودها الطبيعي. هنا، لا يصعد رجال الدولة، بل يرتفع أولئك الذين يعرفون كيف يلتقطون الخوف ويديرون الفوضى ويكتبون "الوقائع "

قبل أن تقع. وهكذا، قبل أن تبدأ الحكاية، تفرض الحقيقة نفسها: ما انهار في لبنان لم يكن الاقتصاد وحده… بل فكرة الدولة نفسها.

وفي هذا المسرح المأزوم، يتقدّم المشهد كما لو أنّ شاتوبريان كان يتجوّل في شوارع بيروت حين كتب عبارته الشهيرة: “رأيتُ الرذيلة تتكئ على الجريمة”. عبارةٌ تكاد تتماهى اليوم مع حركة السياسة اللبنانية، حيث تتبدّل الوجوه ويظلّ النظام مصمَّماً ليحمي ذاته، وحيث تنقلب التحالفات في يوم واحد، لكن المعادلة لا تهتز: قوة الملفات أقوى من قوة القانون، والنفوذ أثقل من المؤسسات، والصفقات أسرع من العدالة.

في قلب هذه اللوحة، يظهر "فوشيه" اللبناني، ذاك الذي لا يظهر في الصور لكنه يحضر في كل زاوية من زوايا السلطة. ليس زعيماً ولا صاحب جماهير، لكنه الرجل الذي لا يسقط مع أحد ولا ينتصر مع أحد. يمسك بخيوط الإدارات، يحتفظ بملفات القضاء، يعرف من دفن التحقيقات المالية ومن عطّل التدقيق الجنائي، ويُتقن فنّ إدارة الشبكات التي تتحرك فوق الطاولة وتحتها. ينجو دائماً لأن سقوطه يحمل معه أسراراً لا يريد أحد أن تنكشف، ولأن الجميع يحتاج إليه في اللحظة الحاسمة.

وعلى الطرف الآخر، يقف "تاليران" اللبناني: سيدُ التسويات، وعرّاب الصفقات التي تُعقد ليلاً وتُعلن نهاراً بلغة مختلفة. رجلٌ يبدّل تحالفاته كما يبدّل مواعيده، يعرف كيف يخسر ليكسب، وكيف يرفع صوته على الفساد فيما يفاوض عليه في السر. يحمل مفاتيح العواصم، ويمتلك براعة الانتقال من ضفة إلى أخرى من دون أن يترك ظله خلفه. طالما أن النظام يحتاج إلى مخرج، يبقى هو موجوداً لتلميع الصورة وتركيب المشهد من جديد.

وبين هاتين الشخصيتين، تمشي السياسة اللبنانية على خيط رفيع يمتد من الرئاسة المعلّقة إلى مجلس النواب الذي يُدار بمنطق الانسحابات ومنع النصاب، مروراً بقضاء ينام ويستيقظ بحسب الطقس السياسي. في الرئاسة، الشعارات تُرفع في العلن بينما الثمن يُحتسب في الغرف المغلقة. في المجلس، تُقاس الجلسات بموازين المصالح لا بموازين الدستور. وفي القضاء، الملفات تُفتح وتُغلق وفق الحاجة: من انفجار المرفأ إلى ملفات المصارف إلى التشكيلات المحجوزة في الأدراج.

أما في المالية، فالصورة أكثر قسوة: من هرّب الأموال؟ من أطفأ التحقيقات؟ من ضغط لإيقاف التدقيق؟ من ترك نافذة صغيرة فقط ليقول إن العمل جارٍ فيما الحقيقة أنه لا شيء يتحرك؟ إنها اللحظة التي يتلاقى فيها المال بالسياسة، والرذيلة بالجريمة، والربح بالخسارة التي يدفعها المواطن وحده.

وفي خلفية هذا المشهد، يطفو مشروع قانون "الفجوة المالية" كاختبار أخير لمنظومة اعتادت الهروب من المحاسبة. قانون يُفترض أن يعالج الانهيار، لكنه حتى الآن يبدو محاولة لتقنينه، عبر توزيع الخسائر بما يحمي الدولة والمصارف ويترك المودع في موقع الضحية الدائمة. أما إقراره في 2026، فلا تحكمه العدالة ولا الإصلاح، بل ميزان التسويات نفسه الذي جعل الرذيلة تتكئ على الجريمة… مرة أخرى.

وتمتد الفوضى إلى الأجهزة الأمنية أيضاً، حيث الشارع يُستدعى عند الحاجة، ويسحب عند الحاجة، والتسريبات تُستخدم كسلاح، والتحقيقات تُفعّل عندما يصبح المطلوب الضغط لا الحقيقة. هكذا يُدار البلد: لا بقوة المؤسسات بل بقوة من يمسك بالخيوط، من يعرف أين يضع العقدة وكيف يحلّها.

وعندما يطالع اللبناني هذا المشهد، يمكنه أن يسمع صدى شاتوبريان من جديد: الرذيلة تتكئ على الجريمة، لا كاستعارة بل كحقيقة سياسية يومية. يتصالح الخصوم فجأة، يتغيّر الخطاب في لحظة، يصبح الفاسد حَكَماً على الفساد، ويمّحي الصوت العالي عندما لا تسمح الساعة السياسية بأكثر من همسة.

ويبقى السؤال: هل يحتاج لبنان إلى ثورة جديدة، أم إلى رجال دولة يقطعون هذا الحبل السري بين الرذيلة والجريمة؟ أم أن النظام، كما عرفه فوشيه وتاليران، مصمّم ليبقى كما هو مهما تغيّرت الوجوه؟ ربما الجواب في لحظةٍ يقف فيها اللبنانيون على قوة المؤسسات لا على قوة التحالفات، وعندها فقط يسقط هذا المشهد المتكرر ويتوقّف التاريخ عن الدوران في الحلقة نفسها، ويولد بلدٌ يشبه ناسه… لا طبقته الحاكمة. هل يتحقق ذلك عام 2026…؟؟


المنشورات ذات الصلة