اوردت صحيفة "هآرتس" العبرية مقالا سردت فيه معلومات موسعة وتفاصيل دقيقة عن الرصيف البحري الاميركي وطرحت مخاوف حول المسار الخطِر الذي سيحول الجيش إلى جيش احتلال وقوة شرطة في القطاع.
"وصلت سفينة Open arms التابعة لمنظمة الإغاثة World Center kitchen إلى ميناء لارنكا في قبرص قبل ثلاثة أسابيع. كانت تخطط للخروج في طريقها إلى غزة ـ وبذلك تفتتح المسار البحري الإنساني الذي سيحل محل طريقة إيصال المساعدات الإنسانية إلى القطاع. لقد تم تحميل أكثر من 200 طن من القمح والأرز ومعلبات التونا ومنتوجات إضافية، ويتم فحصها على يد ضباط إسرائيليين وصلوا إلى لارنكا للتأكد من أنها لا تحمل أي مواد يمكن أن تُستعمل لأهداف عسكرية. لا يزال من غير الواضح كيف سيتم إنزال الحمولة، وكيف سيتم توزيعها على المحتاجين في غزة ـ وخصوصاً أن إقامة الرصيف الموقت في غزة يمكن أن يستمر بضعة أشهر. لكن في المرحلة الأولى، يبدو أن ما سيجري هو تفريغ الحمولة في سفن وزوارق صغيرة قادرة على الرسو على الشاطئ.
منظمة World Center Kitchen هي المسؤولة عن إدارة الأسطول الأول. وتم تأسيسها على يد الشيف الأميركي ـ الإسباني الذي حاز جوائز عدة، خوسيه أندريس، ولديه خبرة واسعة في مجال نقل المساعدات الإنسانية إلى عدد كبير من المناطق في العالم. في غزة، تدير المنظمة نحو 60 مطبخاً، تعمل فيها نساء محليات يطبخن للمحتاجين. إلا إن الكميات الكبيرة من المساعدات الإنسانية ستحتاج إلى ترتيبات خاصة، كمخازن وعمليات نقل وحماية ومراقبة التوزيع. لم يتم ترتيب أي من هذه الأمور بعد، على الرغم من أنه تم البحث في خروج الأسطول في الأسابيع الماضية، وهو ليس تطوراً جرى في اللحظة الأخيرة.
وفي الوقت نفسه، بدأ الجيش الأميركي بعمليات تركيب الرصيف البحري الذي سيرتبط بشاطئ غزة. من المتوقع أن يكون طوله النهائي نحو 500 متر، ومن المتوقع أن تصل إليه سفن مساعدات في أساطيل مستقبلية. هذا المشروع الذي تموله أميركا والإمارات، سيشغل أكثر من 1000 جندي أميركي ـ في مجالات التركيب والتشغيل والصيانة، لكنهم لن يكونوا موجودين على أرض غزة.
للوهلة الأولى، يبدو أن هذه الخطوة تهدف إلى حل إشكالية محددة، لها علاقة بحجم المساعدات التي تصل إلى غزة. إلا إن قرار إقامة الرصيف الموقت تحول إلى حالة طارئة أكثر، بعد أن تبين أن إنزال المساعدات من الجو ـ كما جرى في الأسابيع الماضية ـ مكلف جداً وغير فعال، وخطِر (قُتل 5 فلسطينيين الأسبوع الماضي بسبب إصابتهم بالمساعدات التي أُنزلت ولم تُفتح)؛ كما أنه لا يحتوي على الكميات الغذائية المطلوبة. لكن إقامة الرصيف هي أكثر من حل تقني، لأنها ستحبط سياسة إسرائيل التي تهدف إلى تحويل المساعدات الإنسانية إلى أداة ضغط استراتيجية ضد "حماس"، أو أداة في اللعبة السياسية الداخلية.
الصعوبات التي فرضتها إسرائيل على نقل المساعدات - الوقت الطويل الذي يحتاج إليه فحص المواد في معبر "كرم أبو سالم" والتساهل مع المتظاهرين الإسرائيليين الذين منعوا دخول المساعدات إلى غزة- والكارثة التي قُتل فيها أكثر من 115 شخصاً بسبب لحاقهم بقوافل المساعدات في شمال القطاع (بعضهم جرّاء الدهس، وبعضهم الآخر برصاص جنود الجيش)؛ هذا كله أوضح للأميركيين، وبصورة متأخرة، أن عليهم تغيير الاستراتيجيا، والتدخل، وتحمّل المسؤولية عن إدارة الوضع الإنساني. صحيح أن إسرائيل ستكون مسؤولة عن الفحص الأمني للشحنات - وهذا ما سيجري في ميناء ليماسول - لكن كما يبدو، فإنها لن تستطيع تقرير حجم المساعدات ووتيرة نقلها إلى القطاع. والأهم من ذلك، يمكن نقل بضائع بكميات تعادل مئات الشاحنات في اليوم الواحد من خلال المسار البحري، ويمكن أيضاً أن تدخل إلى غزة سلع وبضائع لا تندرج، بالضرورة، تحت تعريف "مساعدات إنسانية".
بهذه الطريقة، تستطيع الولايات المتحدة، التي تعمل بالتنسيق مع دول أوروبية، إدخال مواد بناء، وأدوات من أجل ترميم البنى التحتية والمياه والكهرباء، وحتى مساكن متنقلة يمكنها أن تخدم سكان غزة الذين يريدون العودة من الجنوب إلى الشمال. هذا "المشروع الإنساني" لا يتخطى إسرائيل فقط - بل سيزيل جزءاً من الضغوط التي تفعّل على مصر، بشأن مطالبة الرئيس عبد الفتاح السيسي بفتح معبر رفح، ووقف التنسيق مع إسرائيل من أجل السماح بدخول البضائع والأشخاص إلى غزة والخروج منها، من دون قيود. وكما هي الحال بالنسبة إلى معبر "كرم أبو سالم" و"نيتسانا"، فإن الأعمال في معبر رفح ستستمر، لكن الارتباط بحكومتَي القدس والقاهرة اللتين تقرران توقيت فتح المعابر ـ سيصبح أقل.
الخطوة الأميركية لا تفرض على إسرائيل، حتى الآن، حجم عملياتها العسكرية في غزة، وإلى حد كبير، يمكن أن تعفيها من تحمّل المسؤولية عن إدارة البعد الإنساني في المعركة، حتى لو لم تؤدّ إلى إعفائها من تحمّل المسؤولية الشاملة عن وضع السكان الغزيين. لكنها في الأساس، تنزع عن إسرائيل إمكانية التعامل مع المساعدات كأداة قتالية. هذا الرصيف البحري الموقت الذي يمكن أن يتحول إلى ميناء، يطرح أسئلة واضحة بشأن قضية الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزة طوال 17 عاماً. في سنة 2010، شنت إسرائيل هجوماً ضد الأسطول التركي الذي حاول كسر الحصار وإدخال مساعدات إلى سكان القطاع. الصراع بين الجيش وناشطي الأسطول الذي تركز على سفينة "مافي مرمرة"، أدى إلى مقتل 11 مواطناً تركياً وقطيعة طويلة في العلاقات بين الدولتين.
الجهود الكبيرة التي بذلتها إسرائيل في إغلاق القطاع لم تمنع "حماس" من بناء مدينة متفرعة تحت الأرض، من أجل استيراد وتصنيع السلاح وتدريب قوات مقاتلة - وفي النهاية، تنفيذ هجوم مرعب من داخل أراضيها. الآن، وضعت إسرائيل نفسها في وضع لا تستطيع فيه إغلاق طرق الدخول إلى القطاع، فحليفتها الأهم تبادر إلى إرسال أساطيل إلى غزة. وبذلك، تفكك الولايات المتحدة الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية، بأن للحصار على غزة وظيفة مركزية.
لكن لا يوجد لدى الولايات المتحدة أيضاً خطة عمل منظمة لتوزيع المساعدات، بعد إنزالها على الرصيف، وحتى وصولها إلى منازل المحتاجين في القطاع. حتى الآن، لا توجد جهة فلسطينية جاهزة، أو تستطيع تحمّل مسؤولية إدارة المساعدات - ومستقبلاً، إعادة الإعمار الأولية للبنى التي تسمح للسكان بالعودة إلى منازلهم.
صحيح أن الولايات المتحدة تستمر في إجراء حوارات مع مسؤولين في رام الله بشأن الحاجة إلى إعادة إعمار السلطة الفلسطينية وإقامة مؤسسات إدارة فاعلة. لكن، حتى الآن، لا يزال هناك معارضة داخل منظمة التحرير، وأساساً داخل "فتح"، لتعيين محمد مصطفى، المقرب من محمود عباس، في منصب رئيس الحكومة، بدلاً من محمد اشتية الذي استقال قبل نحو أسبوعين، لكنه لا يزال يشغل منصب رئيس حكومة تصريف أعمال. حتى الآن، لا يبدو أنه يوجد احتمال لإقامة "حكومة تكنوقراط" فلسطينية. النتيجة يمكن أن تكون في أن تُفرض على الجيش الإسرائيلي مهمة حماية وتوزيع المساعدات إلى جانب منظمات مساعدة محلية ودولية - في أثناء العمليات العسكرية الروتينية. هنا، يمكن أن تتطور المرحلة الأولى في المسار الخطِر الذي سيحول الجيش إلى جيش احتلال وقوة شرطة في القطاع".