كتب إبراهيم الأمين في جريدة الأخبار:
مجرد الإعلان عن عودة الموفد الأميركي عاموس هوكشتين الى المنطقة أشاع أجواء إيجابية. والسبب هذه المرة أنه، هو نفسه، كان قد أعلن أنه لن يعود ما لم يكن هناك تقدم يقود الى صفقة على الجبهة اللبنانية. مع ذلك، قد لا يكون لهذه الزيارة معنى في حال كان يعتقد بأن لبنان ينتظره ليوقّع له صكّ استسلام، علماً أن المتفائلين يضيفون أسباباً أخرى، من بينها أن مسوّدة الاتفاق المعروضة ليست سيئة بالكامل، وأن إطارها العام لا يشير الى أن إسرائبل قادرة على تحقيق كل أهدافها من الحرب.
النقاش القائم في لبنان محصور في شقّه الفعلي بدوائر ضيقة. صحيح أن قوى كثيرة على اطّلاع، لكن الجميع يتصرف على أن من في يده القرار فئة صغيرة، تضمّ المقاومة في إطار تنسيق فعال مع رئيسَي المجلس والحكومة، ومع عواصم عربية وأوروبية. كما أن النقاش في كيان الاحتلال محصور بدائرة القرار في الحكومة والجيش ومجتمع الاستخبارات.
وبين هؤلاء، تيار جدي يقول إن الجيش لن يحقق أكثر مما حقّقه حتى الآن، وأن هناك فرصة لجبي أثمان تمنح إسرائيل هدنة طويلة نسبياً. ويقول أصحاب هذه الوجهة لبنيامين نتنياهو إن بين يديه عناصر لسردية نصر يعرضها للجمهور إن قرّر وقف الحرب. كما أن بين المتفائلين من يعتقد بأن في وقف الحرب فائدة أكيدة للإدارتين الديموقراطية والجمهورية في الولايات المتحدة. إذ بوسع إدارة جو بايدن ادّعاء القدرة على تحقيق إنجاز، ولو في اللحظات الأخيرة. فيما يمكن لإدارة دونالد ترامب أن تبدأ الحصاد لحظة دخوله الى البيت الأبيض.
هذه زاوية تصلح لمقاربة ما يجري من اتصالات. ويمكن إضافة الكثير من العناصر الداعمة لها، بدءاً بواقع جيش الاحتلال الذي يقاتل بقوة تتآكل قدراتها النوعية أسبوعاً بعد آخر، وبجنود أتعبتهم الحرب المفتوحة على كل الجبهات منذ 14 شهراً، مروراً بواقع اقتصادي لا يواجه الخسائر المباشرة للحرب فحسب، بل تحدّي استعادة زخم النمو الذي كان قائماً في السنوات الأخيرة، وصولاً الى ما يمكن وصفه بـ«الضغط الصامت» الذي يتولاه سكان المناطق الممتدة من وسط الكيان الى حدود لبنان، وهو جمهور متعَب نال منه الإنهاك جرّاء حرب الاستنزاف القائمة.
لكن، هل يكفي هذا لوقف الحرب؟
من جانب لبنان، ليس في حسابات المقاومة من عناصر قوة إلا العمل المثابر لدفع العدو الى الإقرار باتفاق لا يمنحه أيّ حق لاحق على وقف إطلاق النار. وتتصرف المقاومة استناداً الى قدرتها على الصمود في الميدان، وثقتها بقدرتها على إدارة الملف المتعلق بمستقبل علاقتها مع الدولة والجيش، وتتصرف على أساس أن كل ما حصل لا يمنح العدو أفضلية فرض الشروط.
والجيد في خطاب المقاومة أنها لا تطلق أيّ تعهد أو وعد، خارج إطار استعدادها لتحمّل ثمن مواصلة المقاومة، وتترك للوقائع إثبات قدرتها على إيلام العدو ومنعه من تحقيق هدفه المعلن بعودة آمنة لسكان المستوطنات الى الشمال.
أما المفاوض الرسمي، فهو ليس أساساً في موقع من يريد السقوط أمام الضغوط. وبمعزل عن كل الكلام، الحقيقي أو المفتعل أو المبالغ فيه، عن وجود وجهات نظر متعددة حيال كيفية التعامل مع الملف، فإن ما تكشفه الأوراق المتداولة، والكلام المنقول الى الوسطاء، يؤكد أن المفاوض الرسمي ليس في وارد القبول بأيّ بند يخدم إسرائيل أو يقود الى فتنة داخلية، مع الأخذ في الحسبان أن الرئيس نبيه بري، على وجه التحديد، لا يتصرّف بأنه في موقع من يجب أن يقدم التنازلات.
ولا يعني ذلك أن الرجل لا يدرك حجم التضحيات، لكنه يعرف أكثر من غيره كلفة الموافقة على شروط تعيد البلد دفعة واحدة أربعين سنة الى الوراء. وهو، في هذا الجانب، لا يقيس الأمر فقط من زاوية المقاومة والسيادة وأمن الناس، بل أيضاً من زاوية موقعه التمثيلي في النظام اللبناني، وهو العارف بما يدور في خلد الخصوم الذين يريدون التخلص من المقاومة، ومن أمور أخرى كثيرة أيضاً.
الجواب يبقى طيّ الأيام المقبلة، ليس فقط لأن المفاوضات بدأت، بل لأن «الوسيط» الأميركي الذي يتولى إدارة المفاوضات، يمثّل في هذه اللحظة العقل المشترك لكل المؤسسة الأميركية، بإدارتَيها الراحلة والآتية. كما أن هوكشتين نفسه، ما كان ليقدم على أيّ خطوة ما لم يحصل على طلب - لا بركة - من إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب بمواصلة المهمة. وكانت الترجمة الأولية لهذا الطلب، أن هوكشتين انتظر في واشنطن وصول مبعوث إسرائيل الوزير رون دريمر، ليس من تل أبيب، بل من فلوريدا. وعندما التقاه، فهم أن حكومة إسرائيل تلقّت البلاغ الصادر عن ترامب بموافقته على مواصلة هوكشتين مهمته. وهي المهمة التي شهدت تطوراً خلال المفاوضات مع دريمر، قبل التوصل الى صياغة تناسب إسرائيل - على ما يقول قادة العدوّ - طُلب الى دريمر العودة بها الى ترامب قبل عودته الى تل أبيب. وهو ما فعله، قبل أن يسمع هوكشتين من جديد أن فريق ترامب يدعم المسوّدة، فعمد الى إرسال نسخة منها الى بيروت.
صحيح أن الأميركيين يدعمون المسوّدة كما وصلت الى لبنان، لكنّ هوكشتين شخصياً يعرف أن فيها ما لا يمكن للبنان القبول به. وفي هذه النقطة، يعود الجميع الى السؤال المركزي: هل تتلخّص مهمة هوكتشين بتذليل العقبات وتعديل المسوّدة بما يحقق تفاهماً، فاتّفاقاً على وقف الحرب، أم أنه سيكون «الوسيط الصامت» الذي يحمل ورقة وقلماً ويدوّن أجوبة لبنان، قبل أن ينقلها الى تل أبيب، ليخرج هناك من يقول إن لبنان رفض المقترح، وعطّل المساعي، وقرر مواصلة الحرب؟
الفكرة هنا أن هوكشتين ليس في موقع القادر على لعب دور الأبله، ولا هو في موقع من يدّعي أن بيده مفاتيح الجنة، بل هو في موقع يعرفه اللبنانيون، كما يعرفه الإسرائيليون، وهو موقع لا تنفع معه ابتسامات صفراء أو تعبير لاعب بوكر. فهو اليوم أمام مهمته الأخيرة كرجل المعاملات في سوق الأسهم، حيث ستظهر ردّة فعله واضحة جداً، فإما أن يقفز فرحاً بمكاسب إضافية، أو يلقي بنفسه على أقرب كرسيّ محبطاً باحثاً عن أقرب باب للخروج من القاعة!