خاص-"إيست نيوز"
فَرضت موجة النزوح السوري الجديدة التي نَجمت عن سيطرة الثورة السورية على مقاليد الحكم في سوريا بعد سقوط النظام وفرار الرئيس بشار الأسد، منذ الثامن من كانون الاول الجاري، استحقاقات اضافية على اكثر من منطقة لبنانية حدودية. وأضافت همًّا على بيئة مُنهَكة تعبت من الموجات السابقة وما تركته من تأثيرات سلبية أصابَتهم في لقمة عيشهم وسوق العمل، كما على باقي وجوه حياة المواطنين في تلك المناطق. وهي معادلة أنهت ما سبقها من معادلات وقواعد، فبعضهم نزح بعدما عاد أهل القرى التي ينتمون اليها الى حيث سكنوها منذ عشرات السنوات وقد عبرت مرحلة مصادرة منازلهم وأرزاقهم في الحرب ودفعوا الى تركها باتجاه لبنان او بلدان اخرى. وقد عادوا بعودة "الثوار" اليها لإنهاء مرحلة من المتغيرات الديمغرافية التي نشأت في المنطقة لسنوات محدودة تَلت العام 2015، فاضطر مَن صادروا بيوتهم واملاكهم بالقوة الى إخلائها قبل تحولهم نازحين. وفي اولى النتائج التي عاينتها "ايست نيوز" على ارض الواقع، والتي لا تخضع لأي نقاش، تبيّن انّ من بين المناطق الأكثر تأثرًا كانت منطقة الهرمل التي دفعت الثمن الاغلى لِما تعيشه المنطقة نتيجة كثافتهم من مخاطر انسانية واجتماعية واقتصادية، وربما أمنية، اذا بَقي "الحبل فالتًا" على غاربه نتيجة انتشار مجموعات بكامل اسلحتها بعد عبورها الحدود اللبنانية بعد مواجهات محدودة مع وحدات وتنظيمات "الثورة السورية"، التي سيطرت من دون اي مقاومة تُذكر على حلب وحماة ومناطق حمص واريافها وصولًا الى القصير والقرى السورية الممتدة حتى القلمون الشمالي. وهي مناطق كانت تحت سيطرة مسلحي "حزب الله" وفصائل ومجموعات مختلفة بأحجامها وهويّاتها اللبنانية والسورية لارتباطها بتشكيلات الحرس الثوري الايراني، وقد تعايشوا لفترة طويلة في منطقة ينتشر فيها أكثر من 15 الف لبناني وسوري فار من وجه العدالة قبل الحرب وفيها وبعدها... وهي حالات نشأت، إمّا لأسباب امنية وقضائية مرتبطة بجرائم ارتكبت واستهدفت وحدات من الجيش والقوى الامنية والعسكرية، او بسبب تجارة الكابتاغون والمخدرات على أنواعها التي حوّلت المنطقة الى مسرح ومصدر لاتجار البشر والممنوعات على انواعها.
وفي اولى المعاينات، تظهر المشكلة الامنية الناجمة عن دخول آلاف المسلحين من اكبر ما هو متوقّع من أزمات، فقد تمكن النازحون المسلحون الجدد من دخول الاراضي اللبنانية بتواطؤ ملحوظ من بعض القوى الامنية او لعجزهم في مواجهة المَد البشري الذي تَسبّب به النزوح الكثيف وما رافَقه من فلتان على الحدود، والذي تجنّب الشرعي منها في ظل وجود أكثر من معبر تسيطر عليه فصائل "محور الممانعة"، الى درجة سَمحَت بدخول آلاف المسلحين بسلاحهم بعدما حالت تدابير استثنائية اتخذتها مجموعات لبنانية من "حزب الله"، وأخرى أهلية ومحلية كانت تمارس الحماية الذاتية لقراها بمصادرة البعض. وهي وإن جَرّدت المئات منهم من أسلحتهم، لكنها فشلت في السيطرة على الآلاف الآخرين المُدججين بالأسلحة. وهم مجموعات يمكن ان تتحول بين ليلة وضحاها الى مصدر قلق حقيقي على أمن اهالي المنطقة وسلامتهم. فما لديهم من سلاح في شكله ونوعيته كافٍ ايضًا ليكون مصدرًا كافيًا لقيام أي فتنة في اي لحظة تتبدّل فيها المصالح او تنشأ الخلافات المحدودة ربما لأتفه الاسباب. هذا عدا عن النقص الحاصل في توفير ما يحتاجه هؤلاء من كساء ومأكل ومشرب وادوية، خصوصًا انّ من بينهم رجالًا مسنّين واطفالًا ونساء في حالات انسانية ميؤوس من بعضها. على هذه الخلفيات طرحت الاسئلة عن الجهات المسؤولة عن مؤشرات الازمة الجديدة من ألفها الى يائها، بما فيها الجهات التي تسببت بالمواجهة العسكرية غير المتكافئة وصولًا الى نتائجها بطريقة لم تلحظ خطًا للرجعة. وقبل الدخول في بعض المعطيات لا بد من التوقف عن حقيقة واضحة مفادها أنّ من هَجّر ابناء القرى السورية المتاخمة للحدود اللبنانية وأجبرهم على الانتقال الى الجانب اللبناني منها هو المسؤول عما حصل. ولما جاء الوقت لاستعادة هؤلاء النازحين قسرًا حقوقهم بالعودة الى قرى حُرِموا منها لسنوات - وهم يقبعون على مقربة منها بساعات محدودة - حصل ما حصل واستبدل "العائدون المهجرون" بـ "المحتلين المغادرين".
عند توزيع المسؤوليات في ما حصَل لا يمكن تجاهل ما تتحمّله القيادة الايرانية من أعبائها عندما أنشأت جيوشها في المنطقة من دون احتساب خط الرجعة
والى هذه الملاحظة الاساسية تبقى المسؤوليات موزعة على الشكل التالي:
- على المستوى الامني ينبغي على القوى الامنية تجريد المسلحين من أسلحتهم بالحسنى او بالقوة تجنّبًا للمخاطر التي لا يمكن إحصاؤها بسبب توفّر الاسباب المؤدية الى اي اشتباك في اي لحظة. وينبغي على مَن رعاهم في سوريا ان يستكمل رعايتهم في لبنان، وهي مسؤولية ملقاة على القيادة الايرانية التي تباهت لسنوات بإنشاء جيوش لها خارج اراضيها الجغرافية قبل مسؤولية "حزب الله" من خلال إدارته المباشرة للمنطقة.
- إنّ أي حدث أمني يمسّ اللبنانيين وأراضيهم سيُحيي الحديث عن مسؤولية كلّ من ساهم في كل ما حصل، خصوصًا انّ ما دفعه الحزب من شهداء وقتلى في دفاعه عن النظام السوري السابق ذهب سُدى بعد استثماره لسنوات قليلة أنهت علاقات تاريخية بين شعبين متجاورين، ونزعت كل اشكال الثقة بينهم الى درجة احتفل فيها السوريون باغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، الذي سَطّر الانتصارات على اراضيهم قبل ان تزرع الشكوك في العلاقات فيما بينهم الى درجة لن يكون من السهل مداواة جروحها البليغة، وهو ما حذّر منه اكثر، لكن لم يرتدع احد.
- وعليه، فإن الحديث عن اي انجاز لا يمكن ان يرضى به احد قبل استعادة العلاقات بين سكان جانبي الحدود على ما كانت عليه، ولا سيما منهم من ينتمون الى العشائر في ثقافتهم وتربيتهم اليومية المشتركة والمتمددة على الجانبين، وقد جمعتهم المصاهرة والعلاقات السلمية الطيبة الى درجة غير مسبوقة ولا يتنكّر أحد لِما جَنت عليهم من مكاسب. وبناء على ما تقدم فإنّ من بين المسؤوليات الكبرى تلك المُلقاة على عاتق النظام الجديد في سوريا الذي عليه رعاية مواطنيه السوريين الى اي فئة انتموا او اي طائفة او مذهب او منطقة، فلا تستمر المخاوف قائمة لدى فئات مذهبية وطائفية ما زالت قائمة، ولو بوجّهها النفسي الى درجة عالية لا يمكن إخفاؤها، وهو أمر لا يعالج الّا بتنفيذ الوعود بدولة مدنية ديمقراطية تتحاشى التجارب "الداعشية" التي عاشها العراقيون والسوريون لفترة من الزمن، ومن الافضل ان ينظر اليها على أنها من أخطاء الماضي وقد آن أوان نسيانها لتبقى العِبَر خريطة طريق الى المستقبل.