على رغم من ذلك، استطاع مصرف لبنان المركزي منذ استلام الحاكم بالإنابة وسيم منصوري الصمود في وجه التحدّيات، ووقف نزيف الإيداعات، ومراكمة الاحتياطي بالدولار، وتثبيت الاستقرار النقدي في السلم والحرب، وإعادة علاقات «المركزي» مع العواصم والمنظمات المالية العربية والدولية، وتحييد القطاع المصرفي عن مسألة إدراج لبنان على اللائحة الرمادية، والقيام بإصلاحات داخل مصرف لبنان في إطار الحَوكمة، وزيادة دفعات المودعين بموجب التعاميم، والجهوزية التامة لمواكبة الحلول المنتظرة النهائية لقضية المودعين.
لذلك، تُجري «الجمهورية» جردة حساب لمصرف لبنان منذ استلام منصوري، لتقييم نتائج العام المُنصرم، والإضاءة على محطّات «المركزي».
وقف النزيف المالي
عندما تولّى منصوري مهام حاكمية مصرف لبنان بالإنابة، كانت المخاوف كبيرة من ازدياد مساحات التفلّت النقدي، خصوصاً أنّ الفترة التي سبقت استلامه مهامه، شهدت على لجوء الحاكم السابق رياض سلامة إلى استخدام أموال الاحتياطي بالدولار، التي هي أموال المودعين، تلبية لمتطلبات الحكومة في تمويل الدولة من جهة، وضبط سعر صرف الليرة من جهة ثانية.
أطلّ منصوري ونوّاب الحاكم على اللبنانيّين بقرار أساسي: وقف تمويل الدولة. وتبيّن في ما بعد أنّه أهم قرار تمّ اتخاذه في الجمهورية اللبنانية، لأنّه أوقف النزيف المالي الذي أصاب أموال المودعين.
ولم يكن وقف التمويل قراراً عشوائياً عند منصوري، بل ترافق مع تنظيم مالية الدولة كاملة في «المركزي»، ثم التعاون مع الحكومة وزارة المالية، لتفعيل الجباية وضبط الهدر.
كان اعتماد الدولة اللبنانية على قدراتها أشبه بمعجزة سابقاً، لكنّه أصبح حقيقة: نجحت الدولة خلال أول 4 أشهر في الاعتماد على وارداتها، وتحصيل ضعفَي ما كانت استحصلت عليه خلال فترة أشهر السنة السابقة. وهو شكّل دافعاً أساسياً للتعاون الحكومي مع المصرف المركزي في وضع رؤية موازنة عام 2024، بصورة واقعية.
يمكن إجراء مقارنة بسيطة بين عام 2018، الذي شهد إقرار موازنة بقيمة 17 مليار دولار، تبعها عجز وصل إلى حدود 8 مليارات دولار، هي بمثابة ديون، وبين موازنة عام 2024 التي بلغت 3,2 مليارات دولار، مع زيادة فائض حوالى 600 مليون دولار، في مشهد يحصل لأول مرّة منذ عام 1981.
خلاصة هذا التعاون بين الحكومة ومصرف لبنان بموجب المادة 91 من قانون النقد والتسليف، التي يقوم بها «المركزي» بالنُصح، أنتج وقف النزيف المالي وكل أشكال الدعم، رفع الاحتياطي، وترشيد الادارة.
الاستقرار النقدي
أقدم حاكم مصرف لبنان بالإنابة على إلغاء منصة «صيرفة» فوراً ومن دون أيّ مقدّمات أو مُهَل، ليوقف بذلك مزراباً من مزاريب الهدر المالي. ثم نفّذ معادلة: التوقف عن شراء الدولار من السوق، والتحوّل إلى بيع الليرة لمن يحتاجها، ضمن ضوابط هيئات الرقابة، والإلتزام بالمعايير الدولية لجهة الامتثال، إذ بات مسار «الكاش» مكشوفاً أمام «المركزي»، فأدّى إلى ضبط الاستقرار النقدي، ومنع المضاربة، ممّا دعا منظمة «فاتف» إلى عدم ذكر cash economy في أسباب ضمّ لبنان إلى اللائحة الرمادية.
كل ذلك أثمر:
- خلق توازن ما بين الاقتصاد المدوَلر والاقتصاد بالليرة اللبنانية.
- الاستفادة من الفائض لزيادة الاحتياطي، بما تجاوز ملياري دولار خلال عام، وهو ما سمح بالحفاظ على الاستقرار النقدي، على رغم من الأحداث الاستثنائية التي حصلت منذ أيلول 2023، والحرب الإسرائيلية المدمّرة، وسحب الدول رعاياها من لبنان ومنع السفر إليه، والشلل الذي أصاب الإدارات العامة، وتوقف رفد الخزينة بأموال الجباية والضرائب.- الاستقرار النقدي شكّل أرضية لبناء اقتصاد سليم، ممّا يستوجب على الحكومة الاستفادة من هذا الاستقرار، لتأسيس اقتصاد بنّاء ومعافى.
- الإستقرار النقدي تحوّل إلى مؤسسة، بعد وضع آليات وأسس واضحة في المصرف. ولن يؤثر أي تغيير في الحاكمية، على انتظام الاستقرار الذي فرضه «المركزي».
إعادة العلاقات مع العواصم والمجموعات الدولية
أقدمت مجموعة «فاتف» على تصنيف لبنان في اللائحة الرمادية، بعد تأجيل على مرحلتَين، لإعطاء مهلة زمنية للبنان لتسوية أوضاعه، كانت بمثابة فرصةً ودافعاً لمصرف لبنان لتنظيم مسارات «الكاش»، وسحب ذريعة cash economy من المجموعة، عبر التزام «المركزي» بكل المعايير التي تضعها «فاتف» في هذا الإطار.
بالفعل، عندما جرى إدراج لبنان في شهر تشرين الماضي على اللائحة الرمادية، كان أنهى منصوري كل إجراءاته وفرض الإلتزام بمعايير الإمتثال، وأظهر خلال زياراته إلى عواصم العالم، وخصوصاً باريس ولندن وواشنطن، حجم الالتزام اللبناني بالمعايير الدولية والشفافية، ممّا أنقذ المركزي والقطاع المصرفي في لبنان من شمولهم في تلك اللائحة، ولم تذكر نقاط «فاتف» العشر أي إشارة تتعلّق بالكاش، بل تضمّن التقرير إشادة بعمل مصرف لبنان، فأدّى الأمر إلى إبعاد تداعيات الرمادية عن التحويلات والمسارات النقدية، ولم يلحظ اللبنانيّون أيّ تغيير بعد وضع لبنان على تلك القائمة.