في وقت أثارت فيه التحذيرات الأخيرة لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الهواجس من تطبيق السيناريو الليبي في سوريا، في إشارة إلى تقسيم البلاد إلى شطرين، والتحكّم التركي المطلق بالشطر الغربي من ليبيا، تشير المعطيات على الأرض إلى بدء تطبيق سيناريو شبيه بما حصل في الغرب الليبي تحديداً، في ظل الاختلافات الكبيرة بين البلدين من جهة، ووجود تركيا على الحدود مباشرة مع سوريا، ما يمنحها مساحة أكبر للتحرك، من جهة أخرى. ومنذ سقوط نظام بشار الأسد، بعد وصول قوات «إدارة العمليات العسكرية» بقيادة أحمد الشرع، زعيم «هيئة تحرير الشام»، إلى دمشق، امتلكت تركيا، الحليف الاستراتيجي للمعارضة السورية بمختلف فصائلها، وبشكل خاص لـ«الهيئة»، سطوة غير مسبوقة على جارتها الجنوبية، سمحت لها بالتدخل في مختلف مفاصل الحياة، والحديث عن رسم مستقبل البلاد، سواء عبر دراسة أسماء القيادة المستقبلية وتحديدها، أو من خلال المشاريع العديدة التي تنتظر تركيا إقامتها تحت عنوان «إعادة الإعمار»، لفتح الباب أمام عودة اللاجئين السوريين.
وفي وقت تحظى فيه روسيا بحضور وازن في الشطر الشرقي الليبي الخاضع لنفوذ اللواء المتقاعد خليفة حفتر، تبدو الصورة مختلفة في سوريا، حيث تقبض الولايات المتحدة على الشرق السوري النفطي، الذي يسيطر عليه الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية)، فيما أصبح ينحصر الوجود الروسي في قاعدتين فقط في الساحل السوري (حميميم الجوية وطرطوس البحرية). ويجعل ذلك الموازنة مختلفة في سوريا، وخصوصاً بعد وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، وإعلانه، قبل وصوله، عدم اهتمامه بما يجري في سوريا، ما قد يفسح المجال لأنقرة للقبض على أكبر مجال ممكن من الأراضي السورية.
وفي هذا السياق، بدأ الحديث يدور حول إمكانية توقيع اتفاقيات تسمح لتركيا بإقامة قواعد عسكرية في مناطق عديدة من سوريا، بالإضافة إلى ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، ما يعني منح أنقرة مزيداً من الحرية في عمليات التنقيب عن النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط، خصوصاً بعد أن وقّعت أنقرة اتفاقات مع مصر وإسرائيل وليبيا، التي استفادت من إضافة ما يقارب 16,700 كيلومتر مربع إلى منطقتها البحرية. بالإضافة إلى ذلك، يجري الحديث عن ربط تركيا بأنابيب النفط السورية، المتصلة أساساً بخط النفط العربي من جهة، وبخط نفطي قديم مع العراق، ما يعزّز الدور المحوري لتركيا باعتبارها حلقة وصل رئيسية لخطوط النفط في المنطقة، وبوابة النفط نحو أوروبا، الزبون الشره لهذه المادة.
وإلى جانب المكتسبات المتقدّمة، بما فيها حصول تركيا مستقبلاً على أكبر العقود في عمليات إعادة البناء، تتيح السياسة الاقتصادية التي أعلنت عنها الإدارة الجديدة لسوريا (الاقتصاد الحر)، لتركيا، سوقاً كبيراً لبضائعها، بمختلف أنواعها، الأمر الذي ظهر بوضوح منذ سقوط نظام الأسد؛ إذ غزت البضائع التركية، والرديئة منها على وجه التحديد، الأسواق السورية، وهو مشهد مرشّح للاستمرار في ظل الدمار الكبير للصناعة السورية خلال سنوات الحرب، وعدم وجود برامج اقتصادية حمائية، حتى الآن.
وفي تصريحات جديدة، أعلن القائم بأعمال السفارة التركية في دمشق، برهان غور أوغلو، عن تحرك عاجل في المؤسسات الرسمية التركية لدخول سوريا، والبدء ببحث مشاريع إعادة الإعمار. وتابع، في تصريحات إلى وسيلة إعلام سورية، أن «الحكومة التركية ستكون من السبّاقين في دعم إخواننا السوريين في مسيرتهم إلى الوصول إلى حكم رشيد لتلبية تطلّعات شعبهم». وأضاف أن «رفع العلم التركي في سفارتنا في دمشق يحمل رمزية مهمة لنقول للعالم إننا نعترف بالنظام الجديد في سوريا فور إسقاط النظام السوري». وإذ اعتبر أوغلو أن المسار لا يزال طويلاً في سوريا، فهو أكّد أن ثمة زيارات عديدة مهمة سيجريها وزراء أتراك، بينهم وزيرا النفط والطاقة، إلى دمشق، لبحث سبل التعاون، بما فيها مشاريع توليد الطاقة الكهربائية عبر دعم المحطات الموجودة أو إنشاء محطات توليد طاقة جديدة في أكثر من منطقة في المحافظات السورية، على حدّ تعبيره.
من جهته، أعلن وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، أن تركيا تسعى لتزويد سوريا بالكهرباء وتعزيز بنيتها التحتية للطاقة، متحدّثاً أيضاً عن إمكانية التعاون مع القيادة السورية الجديدة في مشروعات النفط والغاز الطبيعي. وقال بيرقدار في تصريحات نقلتها صحيفة «حرييات» التركية، أنه «يتعين علينا توفير الكهرباء بسرعة كبيرة لأجزاء من سوريا لا تتوفر فيها الكهرباء من خلال الاستيراد في المرحلة الأولية. وفي الأمد المتوسط، نعتزم أيضاً زيادة الطاقة الكهربائية والقدرة الإنتاجية هناك». وتابع أن «هناك حاجة إلى كل شيء في سوريا. سنعمل على خطة البنية التحتية الرئيسية مع القادة هناك»، مشيراً إلى «إمكانية تصدير الكهرباء إلى لبنان عبر الأراضي السورية»، معتبراً أن «تركيا تعمل على استغلال موارد النفط والغاز الطبيعي في سوريا لإعادة إعمار البلاد (...) سنبحث كيفية الاستفادة من هذه الموارد بشكل مشترك لتعزيز الاستقرار وإعادة الإعمار».
وخلال السنوات الماضية، مدّت تركيا نفوذها بشكل غير مسبوق في الشمال السوري، حيث نفّذت عمليات تتريك متعمّدة عبر فرض اللغة التركية في المدارس، وفرض التعامل بالليرة التركية، التي سمحت الإدارة الجديدة بتداولها في كامل الأراضي السورية. كما قامت بتزويد الشمال السوري بالنفط والطاقة الكهربائية بأسعار مرتفعة، تسبّبت باضطرابات عديدة في تلك المناطق، ما يمكن أن يقدّم صورة مصغّرة عن الطموح التركي المستقبلي في سوريا.
وعلى الصعيد الداخلي في سوريا، تتابع «إدارة العمليات العسكرية» عملياتها «الأمنية» لمطاردة من تطلق عليهم «فلول النظام»، بعد أن قامت بمنح من يرغب في تسليم سلاحه بضع ساعات. ونشرت وسائل إعلام سورية صوراً تظهر انتشاراً كثيفاً لجنود «الإدارة» في مناطق عديدة من دمشق، بالإضافة إلى وصول تعزيزات إلى أرياف حماة وحمص وطرطوس، حيث تدور اشتباكات ومعارك متقطعة، بينما بدأت تشهد المدن الرئيسية حالة من الاستقرار بعد يومين حافلين بحالات انفلات أمني، أعقبت خروج تظاهرات تندّد بالاعتداء على مقام ديني علوي في حلب، وتحركت على إثرها الفعاليات الأهلية والدينية وساهمت في تهدئة الأوضاع.