ارتفع حجم مقاصّة الشيكات بالليرة اللبنانية في الأشهر الـ11 الأولى من عام 2024 بنسبة 20.8% مقارنة مع المدة نفسها من السنة الماضية، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى أن وجهة استعمال الليرة في هذه المدة تكاد تقتصر على تسديد الضرائب والرسوم التي اتسعت بشكل كبير مع إقرار موازنة 2024 التي اعترفت بسعر صرف للدولار الجمركي ولسائر الضرائب والرسوم يوازي سعر الصرف الفعلي في السوق الحرّة، أي 89500 ليرة وسطياً للدولار الواحد. وبذلك، ازداد الطلب على الليرة مع تضاعف الإيرادات المقدّرة في الموازنة إلى 308 آلاف مليار ليرة في عام 2024 مقارنة مع 147 ألف مليار ليرة في عام 2023.
أسهم ذلك في تحفيز التداول بالشيكات بالليرة اللبنانية مقابل تقشّف مارسته الحكومة في الإنفاق، ما لعب دوراً كبيراً في خلق شحٍّ بالليرة في السوق يستدلّ عليه عبر انكماش الكتلة النقدية في التداول لتبلغ في نهاية شهر تشرين الثاني الماضي نحو 49 تريليون ليرة بعدما بلغت أقصى مستوى لها في شباط 2023 مسجّلة 83289 مليار ليرة.
شحّ السيولة بالليرة، بالتزامن مع استقرار سعر الصرف، دفع المصارف إلى رفع أسعار الفائدة اليومية على اقتراض المصارف من بعضها «الانتربنك» لتبلغ مستويات عالية جداً كان أقصاها 150%. عندها اشتعلت المضاربات، فعمدت المصارف إلى شراء الشيكات بالدولار من الزبائن بسعر يصل إلى 15% مقارنة مع سعرها السوقي البالغ 10% من قيمتها، ثم تحوّل هذه «اللولارات» إلى ليرات تشتريها من مصرف لبنان بسعر 15000 ليرة لكل لولار، وتسجّل في كل عملية هامش ربح مرتفعاً جداً. وباشتعال المضاربات، بدأت المصارف تذهب في اتجاه أكثر تطرّفاً عبر الاقتراض من السوق بطريقة مختلفة، فعرضت على الزبائن إيداع ليراتهم، سواء مقابل لولارات يملكونها في حساباتهم لديها أم عبر تحويل كميات من الدولار النقدي إلى ليرات وفقاً لسعر صرف السوق، مقابل فائدة تبلغ 45%. كانت هذه الفائدة أقلّ كلفة من اقتراض المصارف من بعضها مع بلوغ سعر فائدة الانتربنك 150%.
وبحسب مصادر مطّلعة، فإن مصرف لبنان اعتراه القلق من سلوك المصارف تجاه المضاربة على الليرة والمتاجرة باللولار، إذ إن مثل هذا الأمر قد يؤدي، في لحظة ما، إلى انفلات سعر الصرف، وهو ما لا يرغب فيه المصرف المركزي لا شعبياً ولا على مستوى التوازنات المتعلقة بالكتل النقدية المتداولة في السوق. ففي نهاية الأمر، إن ما تقوم به المصارف هو تحويل الإيرادات التي تجنيها بالليرة، إلى دولارات نقدية لتمويل مصاريفها التشغيلية، وهو أمر قد يخلق مساراً متقلّباً من المضاربات تحت عنوان البحث عن المزيد من الإيرادات.
وفي الواقع، قادت مجموعة من المصارف الكبيرة هذا الأمر بشكل واضح، ولا سيما أن لدى عدد محدود من هذه المصارف ما يكفي من السيولة للقيام بهذه المضاربات، فضلاً عن أن خطوات كهذه تتيح لها تذويب بعض من الودائع بأسعار قد يراها المودعون مقبولة في ظل استقرار سعر صرف الدولارات المصرفية (اللولارات) على 15000 ليرة، علماً أن هذا الأخير هو سعر غير قانوني للدولار الأميركي في لبنان، لكنه أشبه بعرف تسير عليه المصارف ويسايرها مصرف لبنان في هذا الأمر.
وبحسب مصادر مسؤولة في مصرف لبنان، فإن هذا الأخير عمد إلى تزويد السوق بالليرات في الأيام الأخيرة من السنة الماضية لتقليص حجم الطلب على الليرة في السوق وكبح المضاربات التي اشتعلت بين المصارف. فقد باع المركزي للمصارف كمية كبيرة من الليرات لعدد من المصارف أدّت إلى خفض أسعار الفائدة على الليرة وتهدئة الطلب على الليرة، ما أدّى بشكل غير مباشر إلى خفض فائدة «الانتربنك» إلى 25%. وقد اتّخذ مصرف لبنان هذه الإجراءات سريعاً بقرار من الحاكم، إلا أنه سيتم عرض هذا الموضوع على المجلس المركزي لمصرف لبنان في الجلسة الأولى المتوقّع عقدها الأربعاء المقبل لدرس ومناقشة هذا السلوك المصرفي وكيفية التعامل معه في ظل الأوضاع الحالية. طبعاً، إن بيع الليرات في السوق يتيح لمصرف لبنان مبادلتها بالدولارات وبالتالي تحقيق فوائض إضافية في احتياطاته الحرّة، كما أن المسؤولين في مصرف لبنان يرون أن المخاطر الناتجة من ارتفاع الطلب على الليرة تكمن في انعكاسها المباشر على المصارف لا على الليرة وسعرها تجاه الدولار. فالحاجات التي خلقتها المصارف للحصول على الليرات من السوق تتعلق بها، سواء لتسديد الضريبة، أو لتسديد رواتب، أو غيرها، ولا تتعلق بتوازنات سعر الصرف التي يقودها المصرف المركزي منذ استقرار سعر الصرف قبل سنة وبضعة أشهر.
صحيح أن هذا الاستقرار هو هشّ، لكنّ السيطرة عليه أمر ضروري باعتبار أن ما خلقته المصارف من مسار قد ينفلت في لحظة ما وتكون له تداعيات مباشرة. لذا، أي سلوك يقوم به المصرف المركزي، قد لا يرتكز الآن على سياسة واضحة تجاه المصارف، بل هو ردّة فعل لكبح أي تحرّكات متفلّتة يقودها تجّار الأزمات. وهذا كلّه يحصل في ظل «سكوت» السلطة عن واقع المصارف «الزومبي» التي تحاول أن تستعيد نفوذها وسطوتها قبل الانهيار وتفرض العمولات على الزبائن بلا حسيب ولا رقيب، كما أنها تسعى بكل الطرق إلى الاستمرار عبر الترويج بأنها قادرة على الإمساك بالسوق وتخريبه ساعة تشاء. المصارف الكبيرة في لبنان، ولا سيما أكبر عشرة مصارف، لديها قدرات من هذا النوع جمعتها بفعل السيولة المتاحة لديها بعدما باعت أصولاً في الخارج كانت قد اشترتها في أيام «العز»، أي إنها اشترت هذه الأصول بسعر صرف مدعوم، وهي اليوم تستعمل إيراداته من أجل تحقيق المزيد.