كتب الدكتور "سليم الزيبق"
ذروة الإحباط ان تتمنى الارتقاء الى مستوى عدوك، لا في مجال القتل والتهجير، بل في التكنولوجيا والحياة الثقافية والسياسية وممارسة الحريات.
في مقالته تحت عنوان "المثقفون الإسرائيليون بين الكلمات والأرض"، (النهار 10/11/2024)، عبر الأستاذ جهاد الزين عن هذا الشعور متحسرا على " التفاوت الهائل بين مستوى الحريات الأكاديمية والثقافية الإسرائيلية، وبين اللّاحريات التي تُطبق بظلالها على النقاش "في الوطن العربي، ومطالبا بالاعتراف " بهول التقدم الثقافي الإسرائيلي، باعتباره كالتقدم التكنولوجي، جزءاً لا يتجزأ من التفوق الحضاري الغربي".
لا شك ان هذا الشعور انتاب كل لبناني عندما علم ان رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو مَثل، في العاشر من كانون الأول 2024، امام محكمة تل ابيب للإدلاء بشهادته فيما يتعلق بتهم الفساد والرشوة المُساقة بحقه.
ان مثول نتنياهو امام القضاء يشكل، بحد ذاته، وبغض النظر عن المرحلة الاستثنائية التي تمر بها إسرائيل، دلالة واضحة على مستوى الثقافة السياسية وتجذرها في المجتمع الإسرائيلي حيث تم الحكم بالسجن على العديد من الشخصيات السياسية الإسرائيلية: على سبيل المثال لا الحصر، نذكر الرئيس السابق موشي كاتساف الذي حكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات، ورئيس الحكومة السابق ايهود أولمرت الذي تم سجنه مدة سنتين .
في البلدان الديموقراطية العريقة، يعتبر خضوع رجال السياسة لحكم القانون حدثا شبه عادي. ففي فرنسا واثناء محاكمة الرئيسين السابقين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، كان خبر نتائج مباراة كرة القدم يمر على شاشات التلفزة قبل الاخبار القضائية المتعلقة بتلك المحاكمة. هذا يعبر عن مستوى الثقافة السياسية وعن سمو دولة الحق ومبدأ المساواة بين المواطنين، اللذان يعتبران جزأ لا يتجزأ من الديمقراطية الغربية. فلا ديموقراطية بلا مساواة، وكما يقول الأكاديمي الأميركي، جيمس اوسكار ماكينزي " لا سلطة بدون مسؤولية ". فمن يمارس السلطة يتخذ القرارات، ومن يتخذ القرارات يجب ان يتحمل المسؤولية المترتبة عليها، سياسية كانت ام جزائية. أما السؤال الكبير، وهنا بيت القصيد، فهو معرفة الأسباب التي تمنع تطبيق هذه القيم والمبادئ الى وطننا؟
الجواب على هذا السؤال يكتسب ابعادا بالغة الأهمية عندما ندرك ما آلت اليه "جريمة العصر" أي جريمة انفجار المرفأ والجرائم المالية التي أدت الى " تبخر" عشرات المليارات من الدولارات، وكأننا في جمهورية تحولت الى شركة مساهمة يتمتع فيها المساهمون " بلا مسؤولية غير محدودة".
تجدر الإشارة أولا الى ان الشوائب التي تعتري النظام القانوني لمسؤولية الحكام الجزائية، تكمن في تكوين التركيبة السياسية اللبنانية أكثر منها في النصوص القانونية. من المعروف ان لبنان اخذ عن القانون الفرنسي نظام الحصانات تكريسا لمبدأ فصل السلطات وضمانة لممارسة هذه السلطات وظائفها بمعزل عن الضغوط والتدخلات.
تجدر الاشارة أيضا الى ان الحصانة لا تحجب الملاحقة الجزائية وانما تشكل قيدا عليها باستثناء ما يتعلق برئيس الجمهورية والنواب. فبحسب منطوق المادة 60 من الدستور، يتمتع رئيس الجمهورية بحصانة مطلقة اذ لا يمكن محاكمته الا امام المجلس الأعلى ومهما كان الجرم المتهم به. اما النائب فانه لا يتمتع بحصانة جزائية مطلقة الا على الأفكار والآراء التي يبديها مدة نيابته وفق المادة 39 من الدستور. اما فيما يخص الأفعال الجرمية، فالمادة 39 من الدستور لا تسمح بملاحقته، " اثناء دور الانعقاد" فقط، دون اذن المجلس ما خلا حالة الجرم المشهود.
بالنسبة للحكومة، ينص الدستور اللبناني، في مادتيه 70و71، على ملاحقة رئيس مجلس الوزراء والوزراء من قبل مجلس النواب امام" المجلس الأعلى" في حال ارتكابهم "الخيانة العظمى او اخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم". للوهلة الأولى يمكن الاعتقاد ان الدستور يمنح أعضاء الحكومة حصانة شاملة. كذلك يظهر مما تقدم ان هذه الحصانة مزدوجة طالما ان الدستور يولي اختصاص "الملاحقة" لمجلس النواب واختصاص "المحاكمة" للمجلس الأعلى الذي يتكون من سبعة نواب وثمانية قضاة عدليين، والمرتبط ماليا واداريا بالمجلس النيابي مما يضفي على هذا القضاء صفة القضاء السياسي بامتياز.
خلافا لادعاءات بعض الوزراء الذين تم استدعاؤهم للتحقيق امام القضاء العدلي، ان الحصانة التي يتمتعون بها ليس لها صفة الشمولية بمعنى ان أي ملاحقة ضدهم تستوجب بالضرورة "الادعاء" من قبل مجلس النواب و"المحاكمة" امام المجلس الأعلى وفق المادة 70 من الدستور. هذه الادعاءات تتعارض مع القواعد التي وضعتها محكمة التمييز منذ قرارها المتعلق بقضية الوزير فؤاد السنيورة والصادر بتاريخ 6 أيار 1991. ففي هذا القرار تراجعت محكمة التمييز عن قرارها بتاريخ 24 اذار 1999 المتعلق بقضية الوزير برسوميان، لتعتبر انه لا يوجد ازدواجية اختصاص بين القضاء العدلي والمجلس الأعلى وانما توزيع اختصاص على أساس طبيعة الأفعال المنسوبة الى الوزير.
انطلاقا من هذه القاعدة، اعتبرت الغرفة الجزائية لمحكمة التمييز، برئاسة القاضي عفيف شمس الدين وعضوية المستشارين جورج حيدر ومحمد مكي، في قرارها المتعلق بالوزير علي عجاج عبدالله بتاريخ 2004 7/6/، ان الواجبات المترتبة على الوزير المنصوص عنها في المادة 70 من الدستور" هي تلك التي تستمد مفهومها من الطبيعة السياسية والدستورية لعمل الوزير ومن جوهر مهامه الوزارية كما هي مقررة في القانون". اذ لا حصانة للوزراء عن الأفعال العادية كالاختلاس واستثمار الوظيفة، نظرا لان هذه الاعمال لا تستمد مفهومها من الطبيعة السياسية او الدستورية لعمل الوزير. كذلك اعتبرت المحكمة انه لا يمكن تطبيق المادة 70 بحجة ان الفعل الجرمي تم " بمعرض" او " بمناسبة " ممارسة الوزير لوظيفته.
بالرغم من وضوح هذه القواعد فانها لم تترجم على ارض الواقع. فكما شهد شاهد من اهله (القاضي حاتم ماضي، مجلة الامن العام، عدد 75، 2009، ص.26) ان الحصانة تحولت الى " ضمان للبعض وملاذ آمن للفاسدين" يتسلحون بها عند استدعائهم للمثول امام القاضي. تتأكد صحة هذا القول عندما نعلم، ان إجراءات المحاكمة امام المجلس العدلي لم تسفر عن محاكمة أي وزير منذ انشائه سنة 1926.
هذا الواقع المؤلم هو نتيجة حتمية للتركيبة السياسية اللبنانية المكونة من فيدرالية طوائف حيث لكل طائفة مرجعية دينية وأخرى سياسية متعاهدتان بالتكافل والتضامن، على حماية بعضها البعض والحفاظ على حقوق "مواطني" الطائفة، والا كيف نفسر ظهور" الخطوط الحمر" عند كل محاولة مساءلة لاحد المسؤولين؟ ان هذه الخطوط تشكل بلا شك حصانة سياسية واجتماعية ووسيلة فعالة للضغط على القضاء الذي هو ليس" بغريب عن اورشليم". بالإضافة الى ذلك يجب الاعتراف بانه لم يتسن بعد لأغلبية اللبنانيين الساحقة ان تدرك أهمية " العام " وارتباطه الوثيق بكل ما هو "خاص". فالخاص هو كل ما " لنا "، نهتم به ونسهر عليه ونعمل على تطويره. اما " العام"، من طرقات وشوارع ومؤسسات وحتى أموال، فلا شان لنا به. والدليل على ذلك ما يظهره الكثير من اللبنانيين من لا مبالاة متناهية امام مظاهر الغنى الفاحشة، من قصور وحفلات، والتي لا يتورع بعض المسؤولين عن اظهارها.
ثم ان عين اللبناني ليست "ضيقة" عندما يتعلق الامر بالأموال العامة. في كتابه "رؤساء حكومات لبنان كما عرفتهم" (دار النهار، 2003) يروي الأستاذ حكمة أبو زيد ان احد الرؤساء قال له في معرض تذمره من اشتداد الحملات على حكومته بتهم الفساد،" انا بعرف الوزير الذي سرق أكثر من غيره .. انه فلان..كل المبلغ ما بيزيد عن 20 مليون دولار، بيحرز كل هالضجه والاتهامات؟!"( ص.136) . للتذكير فقط: التهمة المساقة ضد نتنياهو هي قبول هدايا فاخرة تبلغ قيمتها حوالي 260 الف دولار.
ان قوانين مكافحة الفساد التي تم إقرارها في السنوات الأخيرة تعتبر خطوة جيدة ولكنها غير كافية لوضع حد نهائي لتهرب الفاسدين من الملاحقة والمساءلة. صحيح انه، بخصوص الفساد، تم تعديل المادة 61 من قانون الموظفين بحيث لم تعد تمنع، ملاحقة الموظف عن الجرائم الناشئة عن الوظيفة، قبل الاستحصال على اذن الإدارة التي ينتمي اليها، مما سمح بملاحقة الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة. الا انه هل من المعقول ان تستمر هذه الحصانة في قانوننا بالرغم من الغائها في فرنسا منذ سنة 1871؟.
اما فيما يتعلق بحصانة الوزراء فليس من المبالغة ان نطالب بإلغائها كليا، اذ ان جميع المحاكم التي أنشئت خصيصا لمحاكمة الوزراء لم تؤد الى الغاية المرجوة، بالإضافة الى انها تشكل خرقا لمبدأ المساواة امام القانون. فهناك العديد من الأصوات في فرنسا، كالرئيس السابق فرنسوا هولاند والحالي ايمانويل ماكرون، تطالب بإلغاء محكمة عدل الجمهورية المنصوص عليها في المادة 68-1 من الدستور الفرنسي. فمنذ انشائها، سنة 1993، لم تحكم هذه المحكمة على أي وزير بالسجن الفعلي، حتى ليوم واحد، بالرغم من انه تسنى لها محاكمة 8 وزراء ورئيسي حكومة.
بالنسبة لرفع الحصانة عن النائب، المنصوص عليها في المادة 40 من الدستور، فانه من الضروري تعديل الإجراءات المنصوص عليها في النظام الداخلي لمجلس النواب (م. 96) لجعلها سهلة المنال، اذ انه منذ الاستقلال حتى اليوم لم يتم رفع الحصانة الا عن خمسة نواب.
ان تحقيق هذه الإصلاحات يتطلب إرادة سياسة قد لا تكون موجودة عند أصحاب الشأن. الم يقل المثل الروسي " يصعب عليك قول الحق اذا كنت مستفيدا من الباطل؟ ". الا ان الجميع يعلم، "ان الحق افضل مدافع عن نفسه".
اما عن الحواجز السياسية والاجتماعية، فالطريق طويلة ومضنية كونها مرتبطة ببناء المواطن والمواطنة. فكما يقول رجل السياسة السويسري كارل شينك Carl Schenk 1823-1895)):"إذا أردت حصادا لعام.