يعتبر الكرسي الرسولي أن عملاً كبيراً أنجز في لبنان، تم وضع القطار على السكّة الصحيحة، وانتخب الرئيس اللبناني وعاد الموقع المسيحي الأول في لبنان والشرق إلى مكانه الطبيعي، ومعه تنطلق رحلة الإنقاذ والإصلاح.
كان الفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية الشغل الشاغل للفاتيكان الذي عمل مع الولايات المتحدة الأميركية من أجل الدفع في اتجاه انتخاب رئيس للجمهورية. ولمس كلّ من زار الكرسي الرسولي في الأشهر الأخيرة اهتمام المسؤولين بقائد الجيش العماد جوزاف عون وأدائه وشخصيته.
يبدو أن الفاتيكان كان في أجواء تقدّم عون على سواه من المرشحين، بسبب الدعم الداخلي الذي يلقاه وعمله في المؤسسة العسكرية خلال الأزمة الأخيرة التي ضربت لبنان، وحيازته دعم واشنطن. والفاتيكان من أكثر الدول التي تعرف التوازنات في لبنان، وتعترف بأنه لا يمكن انتخاب رئيس من دون ضوء أخضر أميركي.
ترفض دولة الفاتيكان إقصاء أحد، لكنها في المقابل ترفض سيطرة فريق على آخر أو ابتزاز مجموعة لبقية المكوّنات وتهديدها بدورها. وتشدّد على أن انتخاب جوزاف عون وعودة الدولة هو الانتصار المسيحي والوطني الأكبر، لأنّ المكوّن المسيحي لا يمكنه العيش خارج إطار الدولة وفي بلد تسيطر عليه الدويلات، وعليهم الانخراط في رحلة إعادة الثقة بالدولة وبنائها.
لن يقف اهتمام الفاتيكان بالواقع اللبناني والمسيحي عند حد انتخاب رئيس للجمهورية، بل قفزت إلى الواجهة الأخبار المتناقلة عن تقديم البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي استقالته إلى البابا فرنسيس منذ أكثر من 50 يوماً.
وإذا كان عدد من المسؤولين في الكرسي الرسولي يؤكدون صحّة هذه الأخبار، لم يصدر أي تأكيد رسمي من البطريركية المارونية، والبطريرك الراعي يستكمل نشاطه، وسيزور قرى الشريط الحدودي مطلع الشهر المقبل.
تتضارب الروايات حول الاستقالة، فإذا صدقت الأخبار، يكون البطريرك قد استقال بعد إيصال البلاد إلى برّ الأمان. وقد تولّى الراعي السدّة البطريركية في 25 آذار 2011، أي بعد 10 أيام على اندلاع الثورة السورية، وشهدت بداية ولايته سقوط أنظمة عربية وتبدّلاً في سياسات دول، وقد تكون انتهت بأكبر تغيّر استراتيجي في الشرق الأوسط منذ أكثر من 50 عاماً، يتمثّل بسقوط نظام بشار الأسد في سوريا وهزيمة "حزب اللّه" عسكرياً وسقوط النفوذ الإيراني في المنطقة.
شهد البطريرك الراعي على فراغين رئاسيين، الأول عام 2014 بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، والثاني عام 2022 بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، لكنّ انتخاب الرئيس جوزاف عون أنصفه، حيث أدخل الرئيس الجديد الحياد الإيجابي في صلب خطاب القسم وأعطاه بعضاً من حقه، حيث كان البطريرك قد أطلق وثيقة الحياد التي رأى فيها خلاصاً للبنان.
حتى لو صدقت الأخبار وقدّم البطريرك استقالته، فهذا لا يعني أنه بات مستقيلاً. في هذه الحالة ترسل الاستقالة إلى البابا فرنسيس، وحده مخوّل البتّ فيها، وهي مرهونة بتطوّر الأوضاع، وبتوافق البابا والبطريرك.
وفي حال تحديد تاريخ لقبول الاستقالة، فهل يكون في 25 آذار 2025، لأنه يصادف عيد البشارة والذكرى 14 لتنصيبه بطريركاً؟ التكتّم سيّد الموقف ولا يمكن البناء على التطوّرات من دون صدور أي بيان رسمي من الفاتيكان أو بكركي.