خرج الشعب المقاوم وقد توضأ للصلاة فجراً وتوجّه شطر الجنوب، اصطحب الآباء والأمهات أبناءهم وبناتهم والغالبية تحمل بيمينها علم المقاومة وفي يسارها صورة شهيدها، وتدافعوا أمواجاً نحو مواقع الاحتلال، وأحياناً كانوا أفراداً استشهاديين يتقدّمون إلى مسافة صفر من مدفع دبابة ميركافا. وفي حصيلة اليوم الملحمي الطويل انقلبت معادلة المشهد في الجنوب من حالة العجز عن فعل شيء والاستسلام لقدر بقاء الاحتلال حتى يقرّر الرحيل، إلى معادلة حررت فوراً ثماني عشرة بلدة فتح الشعب طرقاتها ومهّد لدخول الجيش إليها.
الجميع أصيب بالذهول، الكيان أصيب بالارتباك، الذهول في الداخل اللبناني الرسمي والسياسي، ترجمه أصحاب النيات الحسنة بفرصة للضغط من أجل فرض تطبيق دقيق لاتفاق وقف إطلاق النار حيث لا تلاعب بالمهل، وحيث على الاحتلال الانسحاب مع نهاية مهلة الستين يوماً وقد انتهت، بينما ترجمه أصحاب النيات السيئة تملقاً للشعب وانتفاضته وشجاعته على قاعدة الشعب شيء والمقاومة شيء آخر، رغم وضوح الصورة أن الشعب المعني هنا يجاهر بهويته المقاومة.
الارتباك في كيان الاحتلال تُرجم ببعدين، الأول هو أن الخسارة التي أراد الكيان إلحاقها بالمقاومة وإظهارها مهزومة وعاجزة وضعيفة لحقت بالكيان وجيش الاحتلال، حيث آلاف اعلام حزب الله ترفرف على خط الحدود، وصور السيد نصرالله في كل اتجاه، والثاني أن استمرار هذا الوضع وتصاعده قد يصل إلى حال من فقدان السيطرة، سواء لجهة مخاطر تصادم وسقوط أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى، من جمهور لا يبدو أنه يقيم حساباً لآلة القتل الإسرائيلية، أو لجهة احتمالات تسرّب بنى وهياكل قتالية بين جموع الناس الذين يتوافدون بصورة يوميّة إلى النقاط الحدودية، كما قال المحللون في القنوات العبرية.
الانتفاضة الشعبية المستمرة والتي تتجدد اليوم بزخم أكبر مع انضمام عشرات آلاف الطلاب الى المشهد، أسفرت في مواجهات أمس عن استشهاد 22 مواطناً منهم طفلة وثلاثة عسكريين، و124 جريحاً.
في المواقف خاطب رئيس الجمهورية العماد جوزف عون الجنوبيين، معتبراً أن انتفاضتهم هي انتصار الحق مؤكداً أن الجيش اللبناني يقف معهم ويكون حيث يكونون، وأنه يواصل اتصالاته على أعلى المستويات لضمان انسحاب الاحتلال، بينما وجّه رئيس مجلس النواب نبيه بري رسالة للجنوبيين، قال لهم فيها، “فعلكم اليوم أكد أن مقاييس الوطنية والهوية والانتماء للبنان الوطن والرسالة والحرية والتحرر هو أنتم وهي الأرض التي تقفون عليها وتذودون بالدفاع عنها بأغلى ما تملكون، مباركة هي الأرض التي تزداد شموخاً اليوم بحضوركم فوق تلالها وحواكيرها وفوق ركام منازلها المدمرة بفعل غطرسة العدو الإسرائيلي وإرهابه، فعلكم اليوم يؤكد أن وطناً يمتلك عزيمة كعزيمتكم، وإرادة كإرادتكم وحباً للأرض كمثل حبكم، ووفاء لا يقاس كوفائكم وبأساً كالجمر لا يداس كبأسكم، هو وطن لا بد أن ينتصر”.
بينما وجّه رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد رسالة إلى الجنوبيين قال فيها “إن الشعب والجيش والمقاومة هي المعادلة الواقعية الوحيدة التي تحمي البلاد وتحررها من الاحتلال وإن القانون الدولي على أهميته ما لم تدعمه إرادة الشعوب وتصميمها تذهب تطبيقاته أدراج الرياح والوعود والمصالح والمساومات، فيا أهلنا الأحرار في لبنان نُقبل الأرض التي تطأها أقدامكم وننحني باعتزاز وفخر امام عظمة مواقفكم وتضحياتهم وشهادات وجراحات ابنائكم ومعاناة أسراكم وعهدنا لكم أن نكون على امتداد البلاد وبالتعاون مع كل الشرفاء في هذا الوطن لسان صدق لكم صوناً لحقوقهم وتعبيراً عن إرادتكم وخياركم وذراعاً قوية للدفاع عنكم ولتحقيق مصالحكم وآمالكم، أنتم عزنا وشرفنا وفخرنا ووصية أميننا العام لنا وفينا ونحن فرعكم وفعلكم ومقاومتكم”.
إشادات عديدة نالتها انتفاضة الجنوب أبرزها مواقف لكل من الرئيس السابق اميل لحود ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري والوزيرين السابقين رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي أسعد حردان اعتبر الحديث عن تمديد أميركي لمهلة انسحاب الاحتلال رخصة للاحتلال لمزيد من العدوان، مؤكداً أن الوقائع كل مرة تعيد تثبيت معادلة الجيش والشعب والمقاومة، كمعادلة وحيدة للدفاع عن لبنان وحماية سيادته ووحدته واستقراره.
بعد انقضاء مهلة السّتين يومًا لاتفاق وقف إطلاق النار. توجّه عدد سكان من البلدات الجنوبية إلى بلداتهم الحدودية رغم التحذيرات الإسرائيلية. وشهدت مداخل القرى والبلدات في القطاعين الغربي والأوسط منذ ساعات الفجر الأولى تجمعات لعدد من الأهالي الذين وصلوا إلى العديد من الأحياء الآمنة في بلداتهم الجنوبية، فيما عملت وحدات الجيش اللبناني على أمن الوافدين.
قدّر عدد البلدات الّتي انسحب منها الإسرائيليّ كليًّا ودخلها المواطنون بمواكبةٍ من الجيش اللّبنانيّ بحوالي 18 بلدة، كحصيلةٍ غير نهائيّة. وأفاد مصدر أمني بأنّ الجيش دخل بلدات: بني حيان، حولا، ميس الجبل، مارون الراس، عيترون، يارون، راميا، الضهيرة، يارين، أم التوت، الزلوطية، الطيبة، دير سريان، بيت ليف، حانين، القنطرة، عيتا الشعب، القوزح، مع تأكيد المصادر لـ”البناء” أن الجيش لن يخرج من القرى الّتي دخلها في القطاع الشّرقي، فيما لا تزال بلدات اللبونة، مروحين، بليدا، محيبيب، مركبا، كفركلا، العديسة، رب ثلاثين، طلوسة، تلة الحمامص، الوزاني، العباسية، المجيدية ودير ميماس قيد الاحتلال الإسرائيلي.
الى ذلك سقط 22 شهيدًا بينهم عسكريّ في الجيش اللّبنانيّ، وعشرات الجرحى برصاصٍ إسرائيليّ استهدف عشرات المواطنين العُزّل أثناء محاولتهم العودة إلى بلداتهم وأراضيهم في القرى الحدوديّة الجنوبيّة.
وأعلنت قيادة الجيش اللبناني عن استشهاد أحد عناصرها وإصابة آخر في بلدة ميس الجبل نتيجة استهدافهما بإطلاق نار من قبل الجيش الإسرائيلي، في إطار اعتداءاته المستمرة على المواطنين وعناصر الجيش في المناطق الحدودية.
وفي أول البيانات أعلنت بلدية كفرشوبا، في بيان “أنّه بعد الاتصالات التي أجريت مع الجيش اللبناني، بإمكان أهالي البلدة، إبتداءً من صباح الاثنين، العودة إلى منازلهم شرط الالتزام بعدم تجاوز حدود البلدة لجهات النجمة والعين والكروم والشميس والصوان وخلة شباط في الوقت الراهن. كما تذكر البلدية بالامتناع عن رفع الأعلام والصور الحزبية باستثناء العلم اللبناني”.
في المقابل قال رئيس حزب “المعسكر الوطنيّ”، بيني غانتس، إن “الجيش الإسرائيلي يجب أن يبقى في جنوب لبنان حتى يتم تنفيذ جميع شروط الاتفاق، لحماية سكان الشمال”، مشددًا على أن “”إسرائيل” لن تسمح لأي عدو بالتمركز على حدودها مرة أخرى”. وأضاف غانتس أن “”إسرائيل” ملتزمة بسكان المطلة، وليس بسكان كفركلا. سنواصل الحفاظ على أمننا ولن نعود إلى الوراء”. واعتبر غانتس أن الحكومة الإسرائيلية اتخذت قرارًا صحيحًا بعدم السماح لسكان غزة بالعودة إلى شمال القطاع حتى يتم ضمان إطلاق سراح الأسيرة أربيل يهود وتسليم القوائم الكاملة للمحتجزين.
إلى ذلك، أصدر حزب الله بيانًا أكّد فيه على “عظمة شعب المقاومة” وجدّد تمسكه بمبدأ السيادة الوطنية التي تحققت بفضل التضحيات التي قدمها الشعب اللبناني والمقاومة. وأوضح الحزب في بيانه أن لبنان يواصل مسيرته في الدفاع عن أرضه، مؤكدًا أن “شعب المقاومة” الذي يصمد في مواجهة التحديات والعدوان، قد أثبت مجددًا أنه “الشعب المتجذر في أرضه” و”الحارس الأمين لسيادة الوطن”.
وتطرق البيان إلى مرور 25 عامًا على الانتصار التاريخي عام 2000، حيث شدد على أن “المشهد يتكرر” اليوم كما كان في الماضي، وأكد البيان أن “معادلة الجيش والشعب والمقاومة التي تحمي لبنان من غدر الأعداء ليست حبراً على ورق، بل واقع حقيقي يعيشه اللبنانيون يوميًا”. ودعا الحزب جميع اللبنانيين إلى “الوقوف صفًا واحدًا” مع أهلهم في الجنوب لـ”تجديد معاني التضامن الوطني”، وشدّد على أنّ “المجتمع الدولي، وعلى رأسه الدول الراعية للاتفاق، مطالب اليوم بتحمل مسؤولياته أمام انتهاكات العدو الإسرائيلي وجرائمه وإلزامه بالانسحاب الكامل من أراضينا”.
في سياق آخر أبلغ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو “ضرورة سحب قواته التي لا تزال منتشرة في لبنان”، وفق ما أفاد الإليزيه. وقالت الرئاسة الفرنسية في بيان إن “رئيس الجمهورية شدّد لرئيس الوزراء الإسرائيلي على أهمية الا يقوض أي شيء جهود السلطات اللبنانية الجديدة لاستعادة سلطة الدولة على كامل أراضي بلادها”.
في بيانٍ مشترك، أكدت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان، يان كوبيتش، وقائد اليونيفيل، الجنرال أرولدو لاثارو، أن التطورات السياسية الأخيرة في لبنان، بما فيها انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة، تشكّل خطوات إيجابية لبناء الثقة بين الدولة والمواطنين. وأشار البيان إلى انخفاض مستويات العنف منذ بدء تنفيذ تفاهم وقف الأعمال العدائية في 27 تشرين الثاني 2024، ما سمح بعودة مئات الآلاف إلى قراهم. ومع ذلك، أكّد أن الظروف الحالية ليست مؤاتية لعودة آمنة إلى المناطق الحدودية، داعيًا الأطراف إلى الالتزام بالقرار 1701 وتجنّب الانتهاكات اليوميّة له. وختم البيان بدعوة جميع الأطراف إلى تجديد التزامها بالسلام والاستقرار، مع تأكيد الأمم المتحدة على استعدادها لدعم أي خطوات تساهم في إنهاء النزاع وبناء مستقبل آمن للبنان والمنطقة.
وأصدر رئيس الجمهورية جوزيف عون بياناً توجه فيه إلى أهالي جنوب لبنان الذين سعوا للعودة إلى بلداتهم وقراهم، أمس، رغم وجود قوات العدو الإسرائيلية وجاء فيه: “هذا يوم انتصار للبنان واللبنانيين، انتصار للحق والسيادة والوحدة الوطنية. وإني إذ أشارككم هذه الفرحة الكبيرة، أدعوكم إلى ضبط النفس والثقة بالقوات المسلحة اللبنانية، الحريصة على حماية سيادتنا وأمننا وتأمين عودتكم الآمنة إلى منازلكم وبلداتكم.
إن سيادة لبنان ووحدة أراضيه غير قابلة للمساومة، وأنا أتابع هذه القضية على أعلى المستويات لضمان حقوقكم وكرامتكم. الجيش اللبناني معكم دائماً، حيثما تكونون يكون، وسيظل ملتزماً بحمايتكم وصون أمنكم. معاً سنبقى أقوى، متحدين تحت راية لبنان”.
وشدد رئيس مجلس النواب نبيه بري على أن معمودية الدم التي جسدها اللبنانيون الجنوبيون اليوم نساءً وأطفالاً وشيوخاً بصدورهم العارية وبمزيد من الشهداء والجرحى الذين ارتقوا بالرصاص الحي الذي أطلقه جنود الإحتلال الإسرائيلي على المدنيين العزل يؤكد بالدليل القاطع أن “إسرائيل” تمعن بانتهاك سيادة لبنان وخرقها لبنود وقف إطلاق النار وأن دماء اللبنانيين الجنوبيين العزل وجراحاتهم هي دعوة صريحة وعاجلة للمجتمع الدولي والدول الراعية لاتفاق وقف النار للتحرك الفوري والعاجل لإلزام إسرائيل بالانسحاب الفوري من الأراضي اللبنانية التي لا تزال تحتلها في جنوب لبنان.
ودعا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الدول التي رعت تفاهم وقف النار الى تحمّل مسؤولياتها في ردع العدوان وإجبار العدو الإسرائيلي على الانسحاب من الأراضي التي تحتلها، وهذا ما ابلغناه الى المعنيين مباشرة محذرين من أن أي تراجع عن الالتزام بمندرجات وقف النار وتطبيق القرار 1701 ستكون له عواقب وخيمة. متوجهاً إلى أبناء الجنوب بالقول “وطنيتكم باتت مثالاً يحتذى وشهادة بالدم بأن لا حق يضيع ووراءه مطالب”.