جاهل وساذج كل من يعتقد بأن الثنائي الشيعي سيسهِّل مهمة عهد الرئيس جوزاف عون، للوفاء بالتطلعات او بالعهود التي قطعها في خطاب القسم، وخصوصاً لجهة اعادة بناء الدولة القوية او لجهة استعادة السيادة او لجهة استعادة الدولة لشرعيتها الكاملة داخلياً وعربياً ودولياً. وأن الافعال والمؤشرات التي صدرت عن الثنائي خلال الاسابيع القليلة الماضية اي منذ انتخاب الرئيس عون تدل على وجود نوايا لترويض رئاسة الجمهورية والحكومة، والجيش والقوى المعارضة للقبول بالعودة الى الصيغة السابقة للحرب الاخيرة، وبالتالي رفض نتائج الحرب المدمرة على حزب الله وعلى بيئته في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية.
كان حزب الله في السابق يستمد قوته والمترافقة مع عنجهية طبعت خطابه السياسي والاستراتيجي من مقولته الشهيرة «الجيش والشعب والمقاومة»، بعدما فرضها كثابتة سياسية في البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية المتعاقبة، يضاف الى ذلك توازن القوة الذي نجح في بنائه في مواجهة اسرائيل، والذي فتح له الباب لرفع شعار «الردع المتبادل» مع اسرائيل في البر والبحر، اما البُعد الاستراتيجي في هذه المواجهة مع اسرائيل فقد تمثّل بخطابات الامين العام السيد حسن نصر الله حول اهمية ارتباط الحزب في هذه المواجهة بمحور «المقاومة والممانعة» والذي يمتد من طهران الى دمشق وصنعاء وغزة، وهذا ما ظهر عند بداية الحرب على غزة بدعوة كل من الحزب وطهران الى توحيد كل الجبهات في مواجهة اسرائيل.. ولكن سرعان ما تبيّن ان هذه الاستراتيجية هي غير قادرة على مواجهة القوة الاسرائيلية المتفوقة والمدعومة من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وآخرين من دول الاقليم، وجاءت العمليات العسكرية المتبادلة لتؤكد انكشاف كل الجبهات امام القدرات العسكرية المتفوقة تكنولوجياً، والمدعومة بانكشاف امني واستخباراتي، والذي فتح الباب لمفاجآت صادمة، وخصوصاً لجهة استهداف آليات القيادة والسيطرة ومجموعة من الاهداف الحيوية، على مختلف الجبهات وداخل ايران نفسها.
لكن تبقى الخسارة الاستراتيجية الاخطر على ايران وعلى الحزب سقوط نظام بشار الاسد في سوريا، والتي كانت تشكل العمق الاستراتيجي للحزب، ونقطة الثقل اللهيمنة الايرانية على دول المشرق العربي، والقاعدة الاساسية لخطوط المواجهة المباشرة ما بين ايران واسرائيل، والطريق السالك لتزويد حزب الله بالسلاح والمال.
بالعودة الى الداخل اللبناني يبدو بأن تقييم حزب الله والثنائي الشيعي لنتائج الحرب، وما يفترض ان تحدثه من متغيرات في سلوكيتهما السياسية هو سطحي، ولا يأخذ بالاعتبار الوقائع الحقيقية على المستوى الداخلي والعربي والدولي.
على المستوى الداخلي لقد احتضنت اكثرية الشعب اللبناني جميع النازحين القادمين من المناطق ذات الاكثرية الشيعية هرباً من عمليات القصف الوحشي الذي نفذه الجيش الاسرائيلي، وخصوصاً من خلال قواته الجوية المتفوقة، وهو دون شك واجب وطني، مع الاخذ بالاعتبار واجب القيادات الشيعية في حزب الله وأمل تفهُّم حاجات هذه المجتمعات المسيحية والسنيَّة للعيش بأمان واستقرار وفي ظل دولة القانون، وظهرت ارادة هذه الاكثرية من خلال تصريحات مختلف قيادات الاحزاب والقيادات الدينية الداعية للتوافق والالتفاف حول مشروع الدولة، وبالتالي طي صفحة الحروب، والتي يخوضها حزب الله خدمة لمصالح ايران او دفاعاً عن اهالي غزة ضمن فكرة وحدة الساحات.
واعتقدت اكثرية اللبنانيين بأن الامتحان الصعب الذي واجهه الحزب في الحرب مع اسرائيل هو كافٍ لإقناع قياداته وحلفائه للقبول بشروط وقف النار وتنفيذ القرار الدولي 1701 بكل مندرجاته. لكن سرعان ما اتضح انه كان يناور للحصول على وقف النار، خوفاً من هزيمة كاملة تؤدي حتماً الى عبور نهر الليطاني من قبل القوات الاسرائيلية واحتلال معظم اراضي منطقة الجنوب، وما سيحمله ذلك من مضاعفة الخسائر البشرية والعمرانية، وزيادة حجم كارثة التهجير. يبدو بوضوح بأن تبدّل الموقف الاسرائيلي من تنفيذ الاتفاق بالكامل قد حدث انطلاقاً من عدة اعتبارات ابرزها:
اولاً، الاعتبارات الاسرائيلية الداخلية والعائدة للموقف السياسي لليمين المتطرف المشارك في الحكومة، والمترافقة مع رفض اكثرية النازحين الاسرائيليين العودة الى قراهم ومستعمراتهم الشمالية.
ثانياً،عدم قناعة اسرائيل بأن الحكومة اللبنانية القائمة هي جادة، في الضغط على حزب الله للتقيد بنصوص الاتفاق وتسليم مواقعه واسلحته للجيش اللبناني في المنطقة الواقعة جنوب الليطاني، بالاضافة الى رغبة اسرائيل بالحفاظ على عدد من المواقع الهامة داخل لبنان.
ثالثاً، رأت اسرائيل في مواقف حزب الله من الانتخابات الرئاسية الى مطالبه في تشكيل الحكومة العتيدة محاولات جادة لاستعادة المبادرة الاستراتيجية في مواجهة اسرائيل، والتمسك داخلياً بهيمنته على قرار الدولة، والحفاظ على كامل المكاسب السابقة التي كانت تتمتع بها «دويلته». هذه الرؤية قد شكلت احد الاسباب الوجيهة لاسرائيل لرفض التقيد بروزنامة الانسحاب الكامل من لبنان خلال فترة 60 يوماً.
وهكذا فإن اسرائيل قد نجحت من خلال مناورتها هذه لتأجيل الانسحاب حتى 18 شباط الى توجيه رسالة لحزب الله وللدولة اللبنانية بأن ما كان قبل الحرب لن يستمر بعدها، وبأنها لن تسمح لمحاولات الحزب ببناء قدراته العسكرية من جديد او اعلان انتصاره الإلهي، والذي حاول اعلانه الشيخ نعيم قاسم الامين العام الجديد للحزب.
في ظل هذا التلاعب الذي يعتمده حزب الله داخلياً او جنوب نهر الليطاني، بدءاً من احداث يوم الاحد الماضي، وما تلا ذلك من مظاهرات سيارة لاتباع حزب الله في احياء بيروت، كان على الدولة تحميل الرئيس نبيه بري مسؤولية دعوة حزب الله للتعقل. وترك الامر للدولة ولرئيس الجمهورية تحديداً لمعالجة الامور دبلوماسياً، ومن خلال اصدقاء لبنان الدوليين، والذين اعلنوا تكراراً جهوزيتهم لفعل كل ما يلزم لاخراج لبنان من ازمته.
والسؤال الجوهري الذي لا بدّ من طرحه على قيادات حزب الله يتمثل بالآتي:
لماذا الاصرار على اعلان انتصار وهمي، وعرقلة مسيرة تشكيل الحكومة، والقيام بمسيرات تحدٍ للبنانيين، في الوقت الذي يفترض فيه ان يستفيد الحزب من السلوكية التي اعتمدتها طهران سواء بعدم الرد على آخر هجوم اسرائيل او بالانسحاب من سوريا بالكامل فور سقوط نظام الاسد؟
في رأينا تقع على الثنائي الشيعي مسؤولية التعقل واعتماد الحكمة في معالجة الوضع داخلياً ومع اسرائيل، مفسحين الفرصة امام الرئيس عون وحكومته العتيدة لقيادة مسيرة الدولة والاستفادة من وجود اللجنة الدولية المشرفة على الاتفاق بقيادة اميركية.