عاجل:

العلاقات الروسية ـ السورية.. أبعاد تاريخية واستراتيجية لسوريا الموحدة (روسيا اليوم)

  • ٣٠

بقلم الكاتب والمحلل السياسي رامي الشاعر:

أفضت المحادثات الروسية ـ السورية التي تمخضت عن زيارة وفد روسي إلى دمشق برئاسة الممثل الخاص لرئيس الاتحاد الروسي، نائب وزير الخارجية ميخائيل بغدانوف إلى مباحثات إيجابية وبناءة.

وتركزت هذه المباحثات على أبعاد العلاقة التاريخية والاستراتيجية بين البلدين وخصوصاً فيما يتعلق باستقلال، وسيادة، ووحدة أراضي الجمهورية العربية السورية.

بالإشارة إلى اللقاء الذي استغرق أكثر من ثلاث ساعات تخلله غداء عمل ضم الوفد الروسي وممثلين عن الحكومة السورية، وممثلين عن مختلف المؤسسات الحكومية الروسية، فقد عكست الزيارة محددات أبعد مما يقال بأن السياسة رمال متحركة، أو مصالح متبادلة، أو خلافات بين حكومتين، بقدر ما جاء اللقاء نابعاً من تاريخية العلاقة بين البلدين وطابعها متعدد الجوانب، والمرتبط ارتباطاً بنيوياً بالثقافة التاريخية والمترسخة في ضمير السوريين، وتطلعاتهم منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.

الزيارة ذاتها، جاءت لتضع النقاط على الحروف، مصححةً الكثير من الخطابات الشعبوية والإعلامية المسيسة التي استهدفت الدور الروسي في سوريا، فوضعته في خانة الدفاع عن شخص أو نظام فاسد مستبد، كفرضية لا يمكن لدولة عظمى مثل روسيا أن تضعها في اعتباراتها ومصالحها كحسابات قاصرة وضيقة، بقدر ما جاءت في سياق اتفاقيات وقرارات دولية في مقدمتها القرار 2254 الذي توافقت علية جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، وبرعاية دولية وإقليمية، حيث جلس ممثلو الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي وتركيا والجامعة العربية، الذين أخذوا على عاتقهم ضرورة البدء بتنفيذ القرار كمرجعية أممية، بدءاً من الإجراءات التنفيذية لوقف إطلاق النار، التي تمخض عنها فيما بعد عمليات خفض التصعيد. كما ألزم القرار الأممي جميع الدول في محاربة الجماعات المصنفة إرهابياً استناداً للقرار ذاته، وعلى هذا الأساس القانوني كان التدخل الروسي في سوريا في العام 2015، وبعد أن أوشكت دمشق على الدخول في حرب أهلية كان المستفيد الوحيد منها هو تنظيم الدولة الإسلامية، الذي كان يشكل حينذاك القوة الأقوى عسكرياً على الأرض.

لقد طالب النظام البائد مراراً من روسيا الحسم العسكري في أدلب، وفي كل مرة كانت القيادة الروسية ترى في ذلك تجاهلاً لمصير أكثر من أربعة مليون سوري بينهم نازحين من كل المحافظات. الحال ذاته، عندما طلبت القيادة الروسية من رئيس النظام السوري البائد الجلوس مع  الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للبدء بإجراءات التسوية والانتقال السلمي للسلطة، إلا أنه وفي كل مرة كان يماطل ويطالب بالتسليم غير المشروط لأدلب، وهو ما رأت فيه القيادة الروسية ضرباً من المستحيل، وتجاهلاً للكثير من الهواجس والتحديات الاجتماعية والأمنية لسكان المنطقة الذين يشكلون في غالبيتهم العظمى أشخاضاً مطلوبين للنظام.

لم يكن القرار الروسي برحيل الأسد، والطلب من وزارة الدفاع السورية بعدم المقاومة مجرد قرار روسي تم اتخاذه في الساعات الأخيرة وحسب، بقدر ما جاء في سياق متصل، يعود لمراحل ما قبل عملية "ردع العدوان" التي كان مخططاً لها أن تكون حصاراً لحلب لمدة لا تقل عن ستة أشهر.

وفي سياق جاء بين أخذٍ ورد، وصبرٍ وتمهل، سببه التخوف من انفراط عقد الدولة السورية ومؤسساتها، ودخولها في حرب أهلية بين فصائل المعارضة المسلحة والجيش السوري، أدركت روسيا بأن السوريون جاهزون لأي تغيير ما بعد الأسد، وأن الأخير مازال متعنتاً ورافضاً لأية عملية سياسية تفضي لانتقال سلمي للسلطة. وأمام هكذا مواقف اتخذت القيادة الروسية قرارها، فكان ما كان في الثامن من ديسمبر/ كانون الثاني 2024.

في مراحل ما قبل سقوط الأسد، لم تسلم روسيا من اتهامها بفرضية قاصرة سياسياً مؤداها الدفاع عن شخص الأسد. الحال ذاته كان ما بعد سقوط النظام البائد، إذ لم تسلم روسيا أيضاً من اتهامات بعض السوريين، بأن روسيا " سلمت سوريا للإرهابيين" حسب زعمهم، و أنّ من جاؤوا إلى السلطة ليسوا على مستوى الكفاءة، متناسين - على أقل تقدير- أن هؤلاء مثلهم مثل أي سوري يناضل لإسقاط الأسد، وأنهم علاوة على ذلك، أفضل بكثير من أداء النظام وأداء باقي مكونات المعارضة في مناطقهم، الذي يوجهون اليوم سهام النقد على السلطة الجديدة، تبريراً لفشلهم، و لمجرد أنهم لم يكن لهم دور في سقوط النظام، بل عدم حصولهم على مناصب في الإدارة الجديدة هذا من جهة، كما انكشافهم وفشلهم في إدارة مناطقهم التي لم تختلف عن مناطق النظام من حيث الفساد والمحسوبيات والصراع على المال والسلطة، وتهميش الكوادر الوطنية، وتجهيل المواطنين وابتزازهم، ولهذا يحجمون عن الاعتراف بأن من دخلوا دمشق هم مناضلون كافحوا من أجل الخلاص من الاستبداد، وتمكنوا من ذلك، فقط لأنهم نجحوا في حوكمة المناطق التي يسيطرون عليها، بالرغم من العقوبات والعزلة المفروضة عليهم، في الوقت الذي فشلت فيه باقي مناطق النفوذ سواء تلك المدعومة من قوى دولية وإقليمية، أو تلك الهيئات السياسية المعارضة التي اعترفت بها غالبية دول العالم.

لنعترف؛ لقد شهدت أدلب خلال حكومة الانقاذ ما يؤهلها لأن تكون وريثةً، وجسراً لعبور سوريا التي خرج من أجلها السوريون مطالبين بالحرية والكرامة، حيث نجحت تجربة حكومة الإنقاذ بتقديم الخدمات للمواطنين، وأسست لنظام صحي وخدمي وتعليمي، وانتشرت الجامعات والمدارس، كما شهدت نوعاً من الحريات العامة وحرية التعبير، وقد شاهد السوريون المظاهرات السلمية في أدلب دون أن تجابه بالرصاص أو التنكيل، وهي الحالة التي لم نشهدها في مرحلة النظام، كما لم نشهدها في مناطق نفوذ المعارضات الأخرى، التي كانت تجابه المحتجين بالرصاص أو التخوين.

لقد قدمت حكومة الإنقاذ في أدلب نموذجاً مصغراً لدولة بخدماتها للمواطنين، وبتوزيعها للمؤسسات الحكومية بين مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية، في الوقت الذي كانت تعاني فيه باقي مناطق النفوذ من حالة سلطوية عسكرية وأمنية، ترافق ذلك مع فقدان للخدمات وغياب للمدارس والتعليم،  فتفشت الأمية والفقر والأتاوات والسرقات، وغابت عمليات التنمية في مناطق تشكل خزاناً اقتصادياً في سوريا.

هذه المقارنات وحدها كفيلة بأن تفرض حكومة الانقاذ نفسها كبديل ونواة لحكومة انتقالية شاملة تبدأ بحوار سوري سوري فعلي، يؤسس لجمعية تأسيسية تعمل على دستور جديد للبلاد. ولهذا يخطأ من يظن بأن الروس كانوا يجهلون هذه التجربة، أو أن الروس يدعمون إرهابيين على حد زعمهم، بقدر ما هو خيار روسي أخذ على عاتقة فكرة الدولة السورية ومؤسساتها، لا أشخاصها، أو مجموعاتها أو تياراتها، وهي الفكرة التي دافع عنها الروس من أجل سوريا كشريك استراتيجي، سواء قبل النظام وبعده.

من هذه النقطة بالذات، جاء لقاء الوفد الروسي بالحكومة السورية الجديدة في دمشق، من أجل إعادة سوريا كدولة طبيعية تعمل مع دولة عظمى كروسيا لإعادة تموضع سورية في مكانتها الإقليمية والدولية، كدولة موحدة ذات سيادة، ولهذا جاء تقييم الزيارة بأنها ايجابية.

 لقد أخذ الطرفان على عاتقهم إنقاذ سوريا من مشروع تقسيمها الذي يتربص بها، ولهذا ترى القيادة الروسية بأن من يتولون زمام المبادرة لإنقاذ سوريا هم أشخاص لديهم الكفاءة والمسؤولية والوطنية والحرص على سوريا وشعبها، وهي عوامل كفيلة لأن تكون نواة لنقل سوريا إلى دولة يشارك في بنائها جميع أبنائها على أساس المواطنة المتساوية، بعد أن كانت رهينة بيد ضباط، و وزراء، وإعضاء مجلس شعب، همهم الوحيد الاغتناء على حساب تجويع الشعب السوري، وما على السوريين – دون غيرهم – إلا أن يتكاتفوا ويتشاركوا مع سلطتهم الجديدة لعبور سورية إلى بر الأمان، فسوريا بحاجة أكثر من اي وقت مضى إلى العامل الذاتي الذي يجمع السوريين، و يوحدهم، وذلك بالنأي بأنفسهم عن النزوع إلى السلطة، كثقافة رسخها النظام السابق.

لقد عكست الزيارة الارتباط الوثيق بعقيدة السوري المؤمن بوحدة كل شبر من ترابه، من المالكية في أقصى الشمال الشرقي في سوريا إلى القنيطرة والجولان في أقصى الجنوب الغربي. كما تشير الزيارة مواقف روسيا النابعة من ارتباط  السوري بقضيته المركزية فلسطين، كقضية عربية وإسلامية مقدسة، تعد من أولويات السياسية الخارجية الروسية، ولا ينس السوريون المواقف المبدية والثابتة للاتحاد السوفياتي، التي ورثتها روسيا كمدافعة عن هذه القضايا.

ختاماً؛ وبعيداً عن الإعلام الشعبوي وذبابه الالكتروني الذي مازال يضخ في عقول السوريين إشكاليات تشوش على العلاقات السورية الروسية؛ لابد من القول، إن علاقة البلدين هي علاقات مبدئية استراتيجية، وهوية سياسية ثابتة لا تتبدل بتبدل الحكومات أو الرؤساء، بل ومرتبطة ارتباطا تاريخياً بوثاق استراتيجي عصي على المخططات الغربية التي تضع على طاولتها اليوم موضوع تقسيم سوريا، من بوابات وهمية كحماية الأقليات وحقوق المرأة وغيرها، في بلد – كسوريا - قدم للإنسانية منذ آلاف السنين نماذج حضارية في العدالة الاجتماعية والمساواة والتسامح. فالسوريون قادرون على إعادة وجه سوريا الحقيقي، كدولة قوية، سيدة، موحدة، وندّية في علاقاتها مع جميع دول العالم، ومن حسن حظ سوريا اليوم ، أنها طوت صفحة الاستبداد تزامناً مع تبلور نظام عالمي متعدد الأقطاب، وما عليها إلا أن تُحسن تموضعها في إطار ذلك.


المنشورات ذات الصلة