عاجل:

إشكالية تشكيل الحكومة: فتش عن دستور الطائف

  • ١٣٣

بقلم الدكتور سليم الزيبق 


لم يكن متوقعا ان الطبقة السياسية التي تحكم لبنان وتتحكم باللبنانيين منذ عقود، ستختار يوما العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية والدكتور نواف سلام رئيسا للحكومة. اما وقد حدثت المعجزة فلنفرح ولنهلل...

الا ان الفرحة ممزوجة بالخوف من خيبة الامل واندثار الحلم. الم يعترف رئيس الحكومة السابق الدكتور حسان دياب في رسالة استقالته سنة 2020 " ان منظومة الفساد أكبر من الدولة"؟ ألم تبدأ هذه المنظومة بوضع الشروط والشروط المضادة لعرقلة تشكيل أولى حكومات العهد؟

ان الخوف من خيبة الامل ينبع أيضا من المأزق الدستوري الذي وُضعنا فيه منذ دستور الطائف. لا يخفى على أحد، وخاصة على الرئيس المكلف، ان هذا الدستور يتضمن هفوات كثيرة مما يجعل منه "مصنعا" للازمات ويستدعي بالتالي وجود طرف خارجي للتحكيم وفض النزاعات المتكررة بين السلطات، حتى " ولو كان على راسها ملائكة"، حسب تعبير الدكتور جورج قرم رحمه الله. فمنذ خروج " الحَكم" السوري سنة 2005 يعيش اللبنانيون على وتر الشغور الرئاسي ونغم حكومات تصريف الاعمال. 

ان الأزمة الحالية، أي تعثّر تشكيل الحكومة، وبالرغم من ابعادها السياسية الظرفية، تستمد جذورها من نصوص دستور الطائف. فاليوم وبعد ان اجتاز لبنان واحدة من أصعب المراحل في تاريخه الحديث، هناك شرخ بين اندفاعة ميمونة أوصلت وجهين جديدين الى سدة الحكم، في ظل تطورات إقليمية وداخلية مؤلمة، وبين كُتل نيابية في مجلس نواب لم يتأثر مطلقا بهذه المتغيرات. فهناك شريحة واسعة من اللبنانيين تعتبر ان الخسارة العسكرية لحزب الله امام العدو الإسرائيلي مع ما رافقها من ضحايا ودمار، يجب ان تُترجم بخسارة سياسية للثنائي الشيعي على المستوى الحكومي. فبالنسبة لهؤلاء ان هذه الخسارة يجب ان تضع حدا لاحتكار نواب الثنائي الشيعي تمثيل الطائفة الشيعية الكريمة، ولاستعمال فائض القوة للاستئثار بوزارة المالية. في المقابل يعتبر البعض ان الثنائي الشيعي، وحتى الانتخابات النيابية المقبلة، هو الممثل الحصري للطائفة الشيعية بأكملها ويحق له بالتالي، كبقية الكتل النيابية ومنذ دستور الطائف، ان يسمي الوزراء الذين يمثلون هذه الطائفة في الحكومة. 

في الأنظمة البرلمانية، كالنظام اللبناني وفق الفقرة ج من مقدمة الدستور، يستطيع رئيس الجمهورية ان يحسم خلافاً كهذا باستعماله حق حل مجلس النواب وبالتالي إعطاء الشعب، الذي هو مصدر السلطات، مهمة حل الخلافات بين السلطات العامة بطريقة ديموقراطية أي عن طريق الانتخاب.  ان هذا الحق، كما حق مجلس النواب في مساءلة الحكومة، يعتبر المعيار الذي يُميز بين النظام البرلماني وبقية الأنظمة السياسية، والوسيلة الى تؤمن التوازن والتعاون بين السلطة التنفيذية والسلطة والتشريعية. ففي فرنسا ومنذ ولادة الجمهورية الخامسة سنة 1958، استعمل الرئيس الفرنسي هذا الحق عدة مرات سواء لحسم خلاف بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية (سنة 1962) او للخروج من ازمة اجتماعية (سنة 1968) او لدرء المساكنة بين رئيس جمهورية ورئيس حكومة لا ينتميان الى نفس الأغلبية السياسية (سنة1981 وسنة 1988).  فالمادة 12 من الدستور الفرنسي لا تقيّد حق رئيس الجمهورية في حل الجمعية الوطنية الا بشرط "استشارة" رئيس الحكومة ورئيسي الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ.

 اما الدستور اللبناني فانه يقيّد بشكل صارم هذا الحق الى درجة بات معها من سابع المستحيلات حل مجلس النواب، كما أكد على ذلك الرئيس المكلف في كتابه الصادر باللغة الفرنسية.

Le Liban d’hier à demain, actes sud, 2021, page 158.

فلكي تتمكن السلطة التنفيذية من حل مجلس النواب يفرض الدستور، في مواده 55 و65 و77، موافقة رئيس الجمهورية وثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها. زد على كذلك انه لا يمكن للسلطة التنفيذية ممارسة هذا الحق الا أذا امتنع المجلس لغير أسباب قاهرة عن الاجتماع طوال عقد عادي او طوال عقدين استثنائيين، او في حال رد الموازنة برمتها بقصد شل عمل الحكومة. وأخيرا، في معرض تعديل الدستور بناء على مبادرة نيابية، اذا اصر مجلس النواب على التعديل بأكثرية ثلاث ارباع مجموع الأعضاء فلرئيس الجمهورية اما إجابة المجلس الى رغبته او الطلب من مجلس الوزراء حله واجراء انتخابات جديدة خلال ثلاثة اشهر. ان هذه الشروط تؤدي بدون شك الى فقدان السلطة التنفيذية سلاحا ديمقراطيا فعالا لدرء المآزق السياسية كالحالة التي نعيشها حاليا.

 اما بالنسبة لوزارة المالية فلقد كُتب الكثير عن الصلاحيات التي تتمتع بها هذه الوزارة لتفسير تمسك الثنائي الشيعي وخاصة الرئيس بري بهذه الحقيبة الوزارية. في الواقع يمكن اعتبار وزير المالية، في لبنان كما جميع انحاء العالم، كرئيس وزراء ثان نظرا للدور الذي يلعبه في اعداد الميزانية وتنفيذها ووجوب توقيعه على جميع القرارات والمراسيم التي يترتب عليها أعباء مالية. الا ان الوزير، كعضو في فريق عمل متجانس، يخضع في الأنظمة البرلمانية لقاعدة " التضامن الوزاري" التي تفرض على الوزير "اما السكوت او الاستقالة"، حسب تعبير السياسي الفرنسي الشهير 

Jean-Pierre Chevènement : « Un ministre ça ferme sa gueule, si ça veut l’ouvrir, ça démissionne » 

    الا ان المعضلة الحقيقية، التي لا مثيل لها الا في لبنان، تكمن في ان دستور الطائف يسمح بتحويل توقيع وزير المالية الى وسيلة من وسائل الصراع السياسي لتحقيق المكاسب الخاصة على حساب المصلحة العامة.  ان هذا الدستور لا يتضمن أي نص يفرض على الوزراء، كما على رئيس مجلس الوزراء، توقيع المراسيم التي تُتخذ في مجلس الوزراء، وذلك في الوقت الذي تفرض فيه المادة 56 من هذا الدستور على رئيس الجمهورية توقيع المراسيم التي تتخذ في مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما والا تعتبر نافذة حكما. بالإضافة الى ذلك تجدر الإشارة الى انه بالنسبة لمجلس شورى الدولة، ان توقيع الوزير من المقومات الجوهرية لتكوين المرسوم، بمعنى ان خلو مرسوم ما من توقيع الوزير المختص يجعل من هذا المرسوم عملا اداريا باطلا لصدوره عن سلطة غير صالحة (قرار رقم 133 تاريخ 1997/12/4). قد يقول قائل انه لم يبق في هذه الحالة الا اقالة الوزير، الا ان هذه الإقالة تبقى نظرية لان الدستور يوجب ليس موافقة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وحسب وانما أيضا ثلثي أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها (م. 53 وم.65). 

 بذلك، وخلافا لمرسوم تنظيم اعمال مجلس الوزراء (مرسوم رقم 2552 تاريخ 1 اب 1992، م. 28) التي تلزم الوزراء بتوقيع مشاريع المراسيم، تصبح نظرية الوزير المعارض او المُعطل عنصرا من العناصر التي تميز الحياة السياسية اللبنانية، التي تسمح ان تعلو إرادة الوزير على إرادة مجلس الوزراء، والامثال على ذلك كثيرة وما من داع لتعدادها ونكأ الجراح.

في اول تصريح له بعد تكليفه تشكيل الحكومة قال الدكتور نواف سلام ان الأساس في الإصلاحات السياسية هو" العمل على تنفيذ احكام الطائف التي لم تنفذ بعد وعلى تصحيح ما نُفذ منه خلافا لنصه او روحه وعلى سد ثغراته". وفقه الله في تشكيل الحكومة العتيدة وفي سد ثغرات الطائف.                                            

 أستاذ جامعي متقاعد في كلية الحقوق- جامعة ستراسبورغ -   فرنسا

المنشورات ذات الصلة