بقلم الدكتور نزار دندش
يتميّز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأسلوبه المباشر، وتلك صفة من أفضل صفاته، فهو يقول احياناً ما يُفكِّرُ به ويُعلن على الملأ ما يقوله الغير في الدوائر المُغلقة، مُسبباً بذلك إحراجاً للمسؤولين على اعلى المستويات، متحصّناً بكونه رئيس أغنى دولة في العالم، وهي الدولة الأكثر نفوذاً وتأثيرا. حتى ان بعض الصفقات التي اعتاد المخططون لها ان يتفقوا عليها في السرِّ واعتادتْ ان تبقى سراً عشرات السنين، نراه يعلن بعض الصفقات المشابهة لها ويفضح بعض أطرافها ولو بالتلميح. هذه الطريقة تحبها الشعوب في القادة سيّما وان هذه الشعوب قد اعتادت على سماع اخبار الحوادث الخطيرة معطوفةً على تجهيل الأسباب والغايات .
لا شك في ان الدوائر التي ترسم الخطط البعيدة المدى في الدولة العميقة محاطة بالسرّيّة التامة، وقد اصبح اكتساب المهارة في حفظ هذه السرّية علماً من علوم التخطيط العميق .
لا بدّ من الانتباه الى ان ليس كل ما يُعلن شفّافاً ودقيقاً ، فبعضه يُطرحُ بقصد التمويه وإخفاء ما هو أعظم، لكن ورغم ذلك فإن أسلوب ترامب يجمع الكثير من عناصر القوة، فهو يرصّ صفوف مؤيديه ويثير الخشية وربما الذعر في صفوف أعدائه، ويمهّد الطريق لتنفيذ خططٍ تقود الى تغيير العقد السياسي الأممي الذي تَمَثَّلَ بهيئة الامم المتحدة وبمجلس الامن بعد الحروب العالمية المُدمِّرة .
بعد الحرب العالمية الثانية وما رافقها من خسائر في الممتلكات وفي الارواح جاءت الاتفاقيات الأممية لتؤكد على احترام حدود الدول ووحدة اراضيها واحترام حقوق الانسان وحرية تقرير المصير .
أما الاقتراح " المُلزِم " الذي طرحه الرئيس ترامب مؤخراً والقاضي بترحيل شعبٍ كاملٍ لا يرغب بالرحيل إلى ارض شعوبٍ لا ترغب باستقباله، بل ولا تقبل بأن يُهجّر بالقوة من ارضه ولا ترضى بأن تتقاسم ارضها مع شعب آخر حتى ولو كان شعباً شقيقاً، فإن هذا الاقتراح يضع العالم أمام تساؤلات عميقة واسئلة لا جوب لها في أدبيات العالم الذي اعتدنا عليه في السنوات السبعين الماضية من عمر العلاقات بين الدول والشعوب. البعض يعتقد ان ترامب يتبنّى مطالبَ غير قابلة للتحقيق ويرفع شعارات تتناقض مع ثقافة الانتظام الدولي الذي شهده العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو يعرف مُسبقاً ان مطالبَهُ لن تتحقق وهو يعلم سلفاً انه لن يسعى اليها بعناد، انما المقصود هو طرح الحد الأقصى للحصول على الحلّ الوسط . والبعض الآخر يعتقد اننا امام منعطف كبير في السياسة الدولية .
نحن نعرف ان مسيرة العيش على كوكب الأرض تأسست على بديهية موضوعية لم يكن للانسان دورٌ في اختيارها، فنموذج الحياة على كوكبنا يقضي بأن يأكل الكائن الحي كائناتٍ حيّةً أخرى لكي يحيا، اي ان عنوان التعامل بين الكائنات هو ان يأكل بعضنا بعضاً ولا يستطيع اي كائن حي ان يتزود بالطاقة التي يحيا بها الا اذا التهم عدداً من الكائنات الحية المحيطة . هذا القانون لا يُبرّر مقولة صراع الحضارات بل يُفسّر طبيعة صراع الكائنات، فالحضارات يجب ان تتعاون وتتكامل أما الكائنات البشرية فقد اهتمّتْ الأديان بأنسنتها على مدى التاريخ .
وعندما رأت الرأسمالية ان من مصلحتها تقسيم العالم الى دول صغيرة شجّعت الشعوب على ذلك وقسّمتْ الدول المستعمِرة مستعمراتها الى كيانات مناسبة ما زالت مُعترفاً بها حتى اليوم .لكن هل تعني اقتراحات الرئيس ترامب الذي يُنسّق مع إيلون ماسك ان نموذجاً جديداً لتنظيم دول العالم وشعوبها يتم العمل على تحضيره وطرحه وفرضه اذا اقتضى الأمر؟!
قد يكون هذا المشروع قد وضع على نار حامية وقد لا يكون، مع ان الإسراع في تطوير الذكاء الاصطناعي والاعتماد على الروبوتات في العمل والذهاب بعيداً في سياسة التعديل الجيني للكائنات الحية، وكأننا في طور استبدال الكائنات الموجودة على الأرض بكائنات "مناسبة" كلها اشارات توحي بأن نموذج "الأخلاق الدولية" المُتّبع حالياً في طريقه الى التغيير .
هل ينجح ترامب في فرض فكرته؟ أظن ان ذلك صعب جداً فعقائدُ البشر تزداد رسوخاً في الأزمات، ويزداد استعدادها للموت دفاعاً عن قضاياها بغض النظر عن مقدار عدالتها. وقد اثبتت التجارب ان دفعَ الشعوب الى الاقتتال لم يؤدّ الى انقراضها ولم يحلّ الانسان الآلي محلّها، بل على العكس من ذلك فقد تكاثرت هذه الشعوب بوتيرةٍ أسرع في ظروف الحروب الأهلية وزادت مناعتها .
الواضح اليوم ان باباً جديداً واسعاً للصراع قد فُتِح، وهذا الباب متصل بعدة ابواب، فهو متصلٌ بباب قديم كاد الغبار ان يُغيّر معالمه وأبواب جديدة مفتوحة على امتحانات جديدة لأجيالٍ جديدة.