بقلم الدكتور نزار دندش
تحتدم النقاشات في هذه الأيام في لبنان على صفحات التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام وتزداد حدّةً كلما اقترب موعد مسيرة التشييع في الثالث والعشرين من هذا الشهر .
إن توتير الأجواء الشعبية عادة قديمة في لبنان تعاطاها القيّمون على السياسة فيه منذ الاستقلال حيث كان الزعماء يطلقون التصريحات المُستفِزَّة كلما شعر اللبنانيون انهم أبناء وطن واحد وكلما تناسوا انقساماتهم ، وكان المقصود على الدوام تثبيت الاصطفافات تسهيلاً للزعامات في تقاسم السلطة .
كانت خطوط التماس مرسومة في البداية بين من يحتجون على ضمّهم الى دولة لبنان الكبير ويجدون في الدول العربية من يحضنهم، وبين من أوهمتهم فرنسا بأنها الأم الحنون لهم. أما الشيعة فلم تكن لهم أمٌّ لترعى فانتسب الكثيرون منهم الى الاحزاب اليسارية الأقرب الى الفقراء، ثم ساندوا المنظمات الفلسطينية وشكّلوا لها جمهورها، على قَدَمِ المساواة مع السُنّة في لبنان .
لم تتعاط السلطات المتتالية في لبنان مع اللبنانيين كمواطنين بل كأبناء طوائف ومذاهب فلم تعاملهم بالتساوي، لكن انتماءهم للبنان ظلَّ سارياً فزواج الاوطان ثابتٌ ودائم، وفي عقود المواطنة يُمنع الطلاق. لكنّ العواطف الوطنية تغدو مدًّا وجزراً تبعاً لحُسْن الاحتضان والاهتمام .
ولم تتبنَّى دولة شيعية حضانة الشيعة اللبنانيين الا حين ارتدت ثوب الدولة الدينية فبدت عملية احتضانهم مختلفة جداً عن حضانة الدول الأخرى لأبناء المذاهب الأخرى. ويمكن للباحث ان يكتب في هذا المجال الكثير لكنني سوف احصر كلامي الآن بالطارئ في هذه الأيام .
من المعروف ان القائد السياسي الناجح الذي يكتسب شعبيةً واسعة يكون مفيداً جداً لخطّه السياسي ولحزبه فيسعى الحزب الى الاستفادة من شعبيته في حياته وبعد مماته، والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ لم تبدأ مع ضريح لينين ولم تنته مع ضريح الخميني، فلكلِّ جمهور الحقّ في تكريم زعمائه وقياداته والاستفادة من شعبيتهم وتراثهم مدى الحياة، لكن دون إجبار الآخرين على مماشاته وهذا أمرٌ يدركه حتى منظمو التشييع، فإذا كان في ثقافتنا ان لا إكراهَ في الدين كيف يكون الإكراه في الإنضمام الى مسيرة تشييع؟!
إن أحد أجنحة الوطن اللبناني مصابٌ إن لم نقل أكثر فعلى الاجنحة الباقية ان تضمه وتحضنه كما فعلتْ أثناء الحرب حين توزّع أبناء الضاحية والجنوب والبقاع على بيوت كل اللبنانيين في بقية المناطق .
فنحن أمام فرصة تاريخية نادرة لتجديد العقد الوطني وتوحيد كل ابناء الوطن وتجديد العهد للبنان الواحد بالإخلاص له وحماية أهله .وقد آن الأوان لكي يدرك كل لبناني ان لبنان هو الأول والأخير وان الوطن أغلى من كل المُغريات، والتجربة هي الحكم في امتحان النظريات .
أنا لست متخوفاً من مشاكل داخلية في لبنان لأنني اعتقد ان الخارج لم يتخذ قراراً بتخريب لبنان من جديد فقد نال ما يكفي من الحروب والتخريب والتدمير منذ أكثر من خمسين سنة وما زال. ولست متخوفاً من مناوشات اعلامية خطيرة داخل لبنان، فما يحدث الآن من ضجيج اعلامي ليس سوى قنابل دخانية تحجب عن عيون الجنوبيين العائدين رؤية بيوتهم المدمّرة وأرزاقهم المُحترقة او المسروقة والمنهوبة.