عاجل:

إسرائيل تغتنم المسألة الدرزية وتعنّت دمشق وتشقّ "جيباً آمناً" في سوريا (نداء الوطن)

  • ٢٧

كتب جوزيف حبيب:

تستغلّ إسرائيل الخلافات السورية الداخلية الضاربة في أعماق التاريخ وتضاريس الجغرافيا، لتغيير الواقع الأمني والعسكري، وحتى السياسي، جذرياً، في الجنوب السوري. حُدّثت العقيدة الأمنية الإسرائيلية بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، وانتقل "العقل الأمني" من اتباع مقاربة دفاعية - ردعية مُهادنة نوعاً ما وبطيئة، إلى تطبيق نهج هجومي - استباقي حاسم وسريع، بصرف النظر عن تداعياته المحتملة. هذا ما يُفسّر مباشرة الجيش الإسرائيلي بشقّ "ممرّ أمنيّ" يكون خالياً من أي تواجد للجيش السوري والفصائل المعادية للدولة العبرية، ليُضاف إلى "المنطقة العازلة" التي سبق واحتلّتها إسرائيل بعد سقوط نظام الأسد، بالتوازي مع تدميرها آنذاك للبنية التحتية العسكرية الاستراتيجية لسوريا في موجة ضربات قاصمة امتدّت على مدى أيّام، وما زالت تستتبعها بغارات عنيفة متفرّقة في كافة أنحاء البلاد.

تعمد إسرائيل حالياً، بفِعل تفوّقها الجوّي وسيطرتها على مرتفعات مشرفة على دمشق، على منع السلطات السورية من نشر أي قوّة عسكرية وازنة تابعة لها في محافظات الجنوب، وهي القنيطرة ودرعا والسويداء. بالتزامن، يعمل الجيش الإسرائيلي على مسح مناطق متعدّدة في القنيطرة وريف درعا الغربي ميدانياً وتفخيخ مواقع ونقاط عسكرية لجيش النظام البائِد وتدميرها، فضلاً عن قصفه قواعد أخرى جوّاً، فيما يتوقّع خبراء عسكريون بأن تُنشئ إسرائيل "جيباً جغرافياً آمناً" يمتدّ من القنيطرة مروراً بدرعا والسويداء وصولاً ربّما إلى ريفي دمشق وحمص الشرقيَين، ليتصل مع قاعدة التنف عند المثلّث الحدودي السوري - الأردني - العراقي، حيث التواجد العسكري الأميركي. ويُمكن لهذا "الكوريدور" التمدّد لاحقاً على طول الحدود السورية - العراقية تقريباً لدمجه مع مناطق "الإدارة الذاتية" الكردية. وبالتالي، "تطويق" سلطات دمشق وعزلها على طول حدود البلاد الجنوبية والشرقية، إذا ما وجدت واشنطن، الحذرة من الحكّام الإسلاميين الجُدد، مصلحة في ربط هذه المناطق بطلب وإلحاح إسرائيليَين مستقبلاً.

ما يُسهّل العمليات الإسرائيلية، إضافة إلى غياب جيش سوري فعلي، هو الخلافات التي تعصف بين دمشق والفصائل المسلّحة في درعا والسويداء على السواء. صحيح أن التباين مع "اللواء الثامن" في درعا له أبعاد مرتبطة بالمصالح والنفوذ، تبدأ بالداخل ولا تنتهي بقوى خارجية مؤثرة، بيد أن المشكلة المتفاقمة مع السويداء تتّخذ بُعداً طائفياً صارخاً. فالأقليات في سوريا متخوّفة على وجودها ووضعيّتها مع استئثار الإسلاميين بمقاليد الحكم في دمشق ورفضهم أي حلول تقارب الأزمة السورية من زاوية الهويات المجتمعية وحقوق الطوائف الدينية والعرقية المتمايزة عن الغالبية الإسلامية السنية. ومن هذه الأقليات الدروز المتواجدون في الجنوب، خصوصاً في السويداء وفي مجموعة قرى في القنيطرة الحدودية مع الدولة العبرية، والتي استحالت ساقطة بقبضة الجيش الإسرائيلي.

تبعث تل أبيب "رسائل تودّدية" متتالية للدروز، مكرّرة وعيدها لـ "النظام الإرهابي الإسلامي المتطرّف"، وفق وصفها، بالويل والثبور وعظائم الأمور، إذا ما تحرّك ضدّ الدروز، ولا سيّما على لسان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس، في خطوات تمهيدية لجذب الدروز وربطهم أمنياً وعسكرياً واجتماعياً واقتصادياً بالدولة العبرية، تحت عنوان تأمين الحماية والعيش الحرّ والكريم لهم، علماً أن دروز إسرائيل يضغطون في هذا الاتجاه. ما يحصل من تجاوزات وانتهاكات وتصفيات مع العلويين في الساحل السوري وحمص، والتوتر الأمني الذي عكّر أجواء جرمانا في ريف دمشق أخيراً، لا يُشجّع الدروز في الجنوب ولا الكرد في شمال سوريا وشرقها على تسليم سلاحهم للسلطات الجديدة، وتالياً رقابهم للإسلاميين. هذه الممارسات الإلغائية والتذويبية تُهدّد وحدة سوريا، فالإصرار على الدولة المركزية ورفض أي حلول لامركزية، لن يولّد سوى مشاريع الانفصال والتقسيم بحثاً عن الأمن والحرّية وحق تقرير المصير.

تغتنم الدولة العبرية الفرصة من جرّاء التصدّعات الداخلية في سوريا لطرح نفسها كحامية للأقليات المعرّضة للقمع والاضطهاد. يُبدي خبراء في الشأن السوري قلقهم من استمرار نهج الإقصاء في بناء الدولة السورية الجديدة، الأمر الذي تجلّى بشكل واضح في "مؤتمر الحوار الوطني"، بالتحجّج بمطلب "حصر السلاح" بيد الدولة. فعن أي دولة تحديداً نتحدّث هنا؟ وكيف للفصائل المسلّحة التي تُمثل مجتمعاتها الأقلوية أن تثق بوزارة دفاع يُهيمن عليها جهاديون سابقون، بينهم أجانب برتب عسكرية رفيعة؟ حتى أن فصائل سنية مسلّحة لم تجد لنفسها مكاناً في الهيكل العسكري والأمني قيد التشكيل أو أنها أقصيت منه. إنّ المعضلة السورية أكثر تعقيداً وتشعّباً من مسألة حلّ الميليشيات و"توحيد" البلاد تحت راية سلطة من لون واحد.

ويؤكد الخبراء أنه إذا ما أصرّت دمشق على موقفها الرافض لإعطاء كلّ ذي صاحب حق حقّه، بعيداً من منطق "الغالب والمغلوب"، طبعاً من دون اغفال قضية "العدالة الانتقالية"، على ألّا تتحوّل إلى "عزل سياسي" و"هيمنة طائفية"، سيدفع ذلك الدروز والكرد والعلويون والمسيحيون، الذين أصبحت أوساطهم تُجاهر علانية بضرورة البحث بمشروع الفدرالية كحلّ للأزمة السورية، نحو المطالبة بكيانات مستقلّة بحماية قوى خارجية، ما يُعطي ذريعة لدول إقليمية، كإسرائيل وإيران وغيرهما، بالتغلغل من "نافذة" تلاقي مصالحها مع مصالح "جماعات مظلومة"، ما زالت حتى اللحظة تريد التوصّل إلى حلول سورية - سورية داخلية تُبعد عنها شرّ تضارب مصالحها الوجودية مع تلك الخاصة بالأكثرية.

ما هو أمر مفروغ منه، أن حكماً مركزياً شمولياً آخر لن ينتشل "بلاد الشام" من مستنقع التقاتل الأهلي، بل سيُغرقها أكثر به ويُفجّر المسألة الدرزية ومعها قضايا بقية الأقليات الأخرى. لبناء دولة ديمقراطية وعادلة تتسع لكلّ مكوّناتها الدينية والإثنية واللغوية، وكسر "عجلة" الصراع الدموي على السلطة، لا مفرّ من تبنّي الفدرالية القادرة على "تنفيس" الصراعات وحصر قسم كبير منها داخل مؤسّسات "الولايات" المحلّية، ما يؤمّن استقراراً مستداماً على الصعيد الوطني. فالفدرالية المنبثقة من دستور لا يتخذ من "الإسلام" ديناً للدولة، تضمن بكلّ بساطة حقوق جميع السوريين بكافة انتماءاتهم، وتجعلهم "شركاء" بدل أن يكونوا "أعداء"، من دون أي تمييز استعلائي أو عنصري.

يُجمع الخبراء على أن تطبيق الفدرالية مع تقديم دمشق ضمانات أمنية موثوقة لتل أبيب برعاية وسطاء إقليميين ودوليين، يُغلق الباب في وجه التدخل الإسرائيلي المباشر في الجنوب السوري، وربّما يُمهّد الطريق أمام تطبيع العلاقات بينهما. لكنّهم يستبعدون نجاح هذا الأمر، أقلّه في المدى المنظور، منطلقين من خلفيات القوى المعنية وطبيعة البيئة الجيوسياسية والأمنية التي تمرّ بها المنطقة. ويحذرون من أن الدولة العبرية لن تتردّد لحظة واحدة في تحقيق ما تراه مناسباً لها بـ "الحديد والنار" وتغيير المعادلات في الشرق الأوسط، بما يخدم مصالحها الوجودية والحيوية، التي قد تتلاقى بحكم الأمر الواقع مع مصالح لاعبين آخرين في المنطقة، بانتظار توسيع "اتفاقات أبراهام" أو تحضيراً للسيناريوات الأسوأ، التي تحرص إسرائيل على أن تكون جاهزة لها وألّا تتفاجأ بها كما بوغتت صبيحة 7 أكتوبر/تشرين الأوّل.


المنشورات ذات الصلة