كتب "جورج شاهين" في الجمهورية
لم تُفاجَأ المراجع السياسية والديبلوماسية بما تشهده الساحة السورية، فالنظام الجديد فيها يحتاج إلى بعض الوقت لترسيخ سلطته وتجميع قواه للإمساك بالبلاد وتجاوز العقبات التي زادت منها مجموعة «الكانتونات» غير المتحدة التي نمت خلال الحرب. ولذلك، فإنّ الإشكالات التي تفجّرت على خلفيّتها الدرزية في أحداث جرمانا لم تخرج عمّا هو متوقع من مخاطر، زاد منها تبنّي المرجعية الدرزية- الفلسطينية نظرية تتطابق مع المتشدّدين الإسرائيليِّين. وعليه، فإن وُجِد «الفتيل» في جرمانا فأين هي «العبوة» التي ستنفجر؟
تلاحقت التحذيرات التي أطلقها الرئيس الأسبق للحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ممّا يُخطَّط للساحة الدرزية في سوريا، بعد مسلسل من الأحداث التي ترافقت وفصول الحرب التي امتدّت منذ 14 عاماً. وإن احتُسبت شرارتها، يمكن القول إنّ أياماً قليلة تفصلنا عن ذكرى اندلاعها من ساحة درعا في ١١ آذار 2011 وما رافقها وتلاها من ردّات فعل، قبل أن تتفجّر الساحات السورية كافة من أقصى الجنوب إلى الشمال على الحدود التركية، ومن الساحل الغربي على البحر المتوسط حتى الحدود الشرقية مع العراق، وخصوصاً بعدما اجتاحت قوات «الدولة الإسلامية في العراق وسوريا» (داعش) الحدود في اتجاه العمق السوري في منتصف حزيران 2014، فتعدّدت الأطراف المتقاتلة وتشعّبت الأسباب التي قادت إلى حرب ضروس لم يُحص ضحاياها في الأرواح والخسائر بمئات المليارات حتى الأمس القريب.
وفي مثل هذه الظروف، لم تكن الساحة الدرزية في منأى عمّا شهدته بقية المناطق السورية فتعدّدت المواجهات، وكانت بداياتها مع قوات النظام في المناطق المتاخمة، قبل أن تندلع مع بقية القوى المتفلتة من أي إطار نظامي بفعل قيام مجموعات مسلحة محلية نشأت على خلفيات مذهبية أو عشائرية كانت تتحكّم بمقدّرات تلك المناطق، ومنها التي تسبّبت بها المعارك على تخوم دمشق وأريافها، بما فيها المخيّمات الفلسطينية امتداداً إلى الحدود اللبنانية - السورية.
وبقيت الأمور على حالها طوال سنوات الحرب بعد عمليات كرّ وفرّ تخلّلتها مصالحات محلية موقتة لم تدم طويلاً، إلى أن سقط النظام مطلع كانون الأول الماضي، وتعزّزت المخاطر ولم تتمكن الوحدات المنضوية تحت لواء «هيئة تحرير الشام» من توحيد قوى المعارضة ما عدا التي تُديرها غرفة عمليات موحّدة تَعِب النظام التركي في تشكيلها وتنظيمها وتجهيزها بطريقة سمحت لها بالسيطرة على دمشق بين ليلة وضحاها بلا أي مقاومة فعلية، وهو أمر ردّه الخبراء العسكريّون إلى سقوط خطوط الدفاع كافة التي كانت تحت سيطرة جيش قرّر أن لا يحارب في مناطق واسعة تمتد من محافظتَي حماه وحمص حتى الساحل السوري، وصولاً إلى اللحظة التي فرّ فيها الرئيس بشار الأسد من قصره في ليلة لم يكن يحتسبها أحد من أنصاره والخصوم على حدٍ سواء.
ليس في ما سبق من عرض للتطوّرات المتسارعة منذ مطلع الخريف الماضي سوى الإشارة إلى أنّ سقوط هذه المناطق أدّى تلقائياً إلى نشوء وحدات أمن ذاتي في عدد من المناطق، قبل أن تنطلق ورشة بناء الجيش السوري الجديد إنطلاقاً من نواة هشة تعود إلى عشرات المنظمات المسلحة التي جمعتها غرفة العمليات التي يُديرها أحمد الشرع، قبل أن تختاره الفصائل رئيساً لمرحلة انتقالية في البلاد لا حدود ولا مواعيد لنهايتها، كتلك التي أُعطِيت لحكومة موقتة انتهت ولايتها مطلع آذار الجاري من دون أن تشكّل حكومة جديدة تعمل لإعادة بناء الدولة بعد حَلّ حزب البعث الحاكم وتحاشي المَسّ بالوزارات والمؤسسات المدنية والإدارية والمالية التابعة للدولة السورية بهيكليتها السابقة.
عند هذا المفترق التاريخي بين مرحلة إعادة لملمة الأطراف في الدولة السورية تحت لواء الحُكم الجديد، برزت عقدتان أساسيّتان، واحدة كردية مسرحها في محافظتَي الحسكة والقامشلي في شمال شرق سوريا، وأخرى ذات غالبية درزية في محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة عند مثلث الحدود السورية - اللبنانية - الفلسطينية المحتلة في موازاة الجولان السوري المحتل. وعلى وقع المناوشات المحدودة اجتاحت إسرائيل المنطقة العازلة الموضوعة في عهدة مراقبي قوات الأمم المتحدة («الأندوف») منذ العالم 1973 في الجولان المحتل وصولاً إلى جبل الشيخ والمناطق الموازية للحدود اللبنانية بما فيها من مناطق درزية، قبل أن تنطلق المناوشات بين مجموعات مسلحة منهم وجيرانهم من الأمن العام التابع للسلطة السورية الجديدة.
وفي الوقت الذي سلكت فيه المبادرات لملمة العقدة الكردية وتطويق المعارك العسكرية التي اندلعت في مناطق عدة، حتى بلغت مرحلة إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني المحظور عبدالله أوجلان من معتقله وقفاً شاملاً لإطلاق النار مع القوات التركية حتى توسعت رقعة المواجهات في المناطق الدرزية، إلى أن بلغت أحداثها مدينة جرمانا ذات الغالبية الدرزية، فارتفعت أصوات الحماية لأبنائها الدروز من فلسطين المحتلة على خلفية تجاوب بنيامين نتنياهو ورئيس أركان الجيش الجديد تلبية لنداء زعيمهم موفق طريف.
قبل هذه التطوّرات، وما بقيَ مخيف ممّا سبقها طَي الكتمان، رصد جنبلاط مخاطر المرحلة، فحاول منذ زيارته الأولى لدمشق ترميم العلاقة بين دروز المنطقة والنظام الجديد، وتضامنت معه مشيَختا العقل في سوريا الشيخ حكمت الهجري وفي لبنان الشيخ سامي أبي المنى، فتلاحقت الاجتماعات بينهما والقيادة السورية الجديدة، قبل أن يزور جنبلاط على رأس وفد كبير أحمد الشرع في 27 كانون الأول الماضي، في محاولة لاختصار الوقت لتحقيق تفاهم يُبقي القوة الدرزية تحت رعاية الدولة وقطع الطريق على محاولات دروز فلسطين لدعم قيام دويلة درزية في الجنوب منفصلة عن الدولة، بغية تحويلها إلى منطقة عازلة يعتقدون أنّها لضمان الأمن في مواجهة «مشروع إرهابي» على حدودها يتحكّم بسوريا بوجود الشرع على رأسها، من دون إغفال ما لتركيا من نفوذ إن امتدّ إلى تلك المنطقة سيزيد من المخاطر على إسرائيل.
وأمام هذه المعادلة البسيطة لا يُخفي جنبلاط مخاطر ما يجري هناك من انعكاسات على دروز لبنان. فالدولة الدرزية التي يُمنّون النفس بها تتجاوز السويداء لتعبر إلى وادي التيم وصولاً إلى الجبل حتى خلدة لبناء ميناء على البحر المتوسط، وهو ما أدّى إلى نظرية يجري تبادلها في الساعات الماضية وهي تقول إن كان فتيل الانفجار قد عُثِر عليه في جرمانا السورية فهل سيؤدّي إلى تفجير عبوة مزروعة في لبنان قبل سوريا أو في موازاتها، ليبقى الرهان معقوداً على تفاهم داخلي مع النظام ورفض تركي لتقسيم سوريا، وهو ما يسعى إلى التثبّت منه جنبلاط في زيارته الثانية لسوريا قبل نهاية الأسبوع الجاري.