كتب "جورج شاهين"
تعترف مراجع عسكرية وديبلوماسية بأنّها لم تُفاجأ بما شهدته مدن الساحل السوري من عمليات أمنية تسبّبت بها هجمات منظّمة ومكامن استهدفت مراكز الأمن العام السوري الجديد ودورياته، وهو في طَور البناء على أنقاض الأجهزة الأمنية السابقة. وما زاد من عدم الاستغراب حجم التنوّع الطائفي والمذهبي الذي جعل المنطقة عصية على القوى الجديدة، فتعدّدت المناوشات قبل الانفجار الذي بات يُهدّد تحالفات إقليمية، نتيجة تضارب المصالح من التحوّلات الكبرى. وهذه عينة من هذه المؤشرات.
لا تتوقف المراجع الديبلوماسية والمخابراتية عند المستجدات الأمنية والعسكرية بوقائعها الواسعة التي شهدتها مناطق ومدن عدة من الساحل السوري، ولا عند الأسباب المباشرة التي شكّلت شرارة هذه الأحداث. فهي لا يمكن أن تبحث في ظروفها وشكلها وهدفها، وما يمكن أن تنتهي إليه من دون العودة إلى المرحلة التي تلت سقوط النظام السوري وفرار الرئيس بشار الأسد في الثامن من كانون الأول الماضي إلى موسكو، وما رافق تلك المرحلة من معطيات جديدة فاجأت تطوّراتها الدراماتيكية المتسارعة حلفاء النظام وخصومه معاً، وأعادت التذكير بسلسلة من المواقف التي لا يتسع لها مقال.
ورأت المراجع عينها، أنّ ما حصل من عمليات عسكرية واسعة كان تطوّراً طبيعياً لمسلسل من المناوشات المتفرقة التي شهدتها أكثر من منطقة توزّعت بين اللاذقية وطرطوس وبانياس وأريافها. وهي أحداث تركت آثاراً عميقة لا يمكن مداواتها بالسرعة التي يتخيّلها البعض لدى فئة من السوريِّين ولا سيما العلويِّين المتهَمين بارتباطهم بالنظام المنهار وآل الأسد تحديداً، فهُم من أبناء المنطقة.
وما زاد في الطين بلّة، أنّ هذه المجموعة التي عاشت نوعاً من الحصار المعنوي، قبل الأمني والعسكري، لم تستوعب بعض التصرّفات، وخصوصاً تلك التي استهدفت بعض رموزها، إلى درجة لا يمكن أن يستوعب أي علوي - كان غاضباً من النظام - إحراق مدفن الرئيس الراحل حافظ الأسد في القرداحة ذات ليلة والعبث بالقبر، فأيقظت فيهم شيئاً ممّا كان مخفيّاً في الصدور. وعلى رغم ممّا لدى فئة واسعة منهم، من ملاحظات قد تفوق بعضها ما لدى أنصار الثورة السورية التي انتصرت، فقد جمعتهم هذه الحادثة ومعها ما تلاها ورافقها من أعمال اغتيال طاولت رموزاً من حزب البعث وقادة تلك القوى المسلحة التي نمت إلى جانب الجيش السوري النظامي وعاثت فساداً في المنطقة وصنّفت الناس بين موالين للنظام وعملاء للثورة.
وعليه، فقد أخمدت التصرّفات التي نُسِبت إلى مجموعات شاذة انتشرت قبل توحيد القوى العسكرية والجيش في نفوسهم الثورة الغاضبة التي تلت الإعلان عن فرار الأسد وأفراد عائلته بلا أي مقاومة كان يمكن أن يقوم بها الجيش السوري بكل عتاده، الذي انهار أمام مجموعات تستخدم الدراجات النارية وسيارات الجيب غير المصفّحة، في منظر لا يمكن تشبيهه بأي جيش نظامي أو أي قوة ثورية تقليدية يمكن أن تخوض معارك وتحتل مدناً وقرى ومحافظات بهذه السهولة والسرعة القياسية.
وعلى هذه الخلفيات، يتحدّث المراقبون أنفسهم ويوجّهون اللوم إلى قادة الثورة التي لم تُراعِ هذه الظروف ولم تُعطِها ما تستحق من أهمية، فتركت لبعض الجهات الإقليمية القدرة على إعادة تنظيم صفوفها ما بين ما تبقّى من الجيش القديم والميليشيات التي حاربت إلى جانبه ومَن معها من خبراء أجانب لتُعيد تنظيم نفسها بطريقة سرية وسريعة، سمحت لهم بالتحرّك في مناطق بعيدة عن عيون الأجهزة الجديدة التي لم تُمسِك بالأرض كما كانت هي الحال في السابق. فالمنطقة التي شهدت الأحداث الأخيرة شاسعة وواسعة وتجمع ملايين البشر التي يمكن أن تحوّل أحياءها مناطق نموذجية للاختباء وإعادة تنظيم المجموعات الصغيرة التي تُحسن استخدام الأسلحة الخفيفة التي تعوق تحرّكات قوى الأمن الجديدة ودورياتها.
هذا على المستوى العسكري والأمني، تُضيف المراجع عينها، لتؤكّد ضرورة إلقاء الضوء على جوانب سياسية ومخابراتية أخرى نجحت في تجميع بعض القوى مع الوعد بالقدرة على إسقاط النظام الجديد. وأعادت هذه المراجع التذكير بالمواقف الإيرانية ما بعد انتصار الثورة التي توّجها ما نُسِبَ إلى مرشد الثورة الذي عبّر عن اقتناعه بأنّ «هناك أحراراً في سوريا قادرون على إسقاط النظام الجديد وإعادة أمجاد سوريا التاريخية». عدا عن تلك المجموعات التي لم تغادر سوريا بعد بفعل الحصار على الحدود مع لبنان وتركيا، ولم تستسلم للقوى الجديدة، فأطلقت عملياتها المتفرّقة بنحوٍ منظّم كتلك التي حصلت قبل يومَين، وأوقعت عدداً كبير من القتلى والجرحى، ما دفع إلى طلب النجدة من محافظات عدة تُشكّل خزّاناً بشرياً لها، وكذلك من إدلب ومحيطها.
وبمعزل عن بعض التفاصيل العسكرية، فإنّ الإشارة إلى بعض المواقف الديبلوماسية والسياسية الإقليمية والدولية تدفع في اتجاه قراءة ما هو متوقع من أحداث، إذ أسرعت تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر والأردن إلى إعلان تأييدها النظام الجديد، ولذلك اتخذت العمليات الجارية أبعاداً إقليمية مختلفة غير مستغربة، وخصوصاً إن وُضِعَت في مواجهة الارتياح في «محور الممانعة» عموماً، في موازاة ردّات الفعل المتلاحقة في بعض الأوساط اللبنانية واليمنية والعراقية التي تُمنّي النفس بإسقاط النظام الجديد في سوريا بطريقة سوريالية.
وتنهي المراجع عينها لتقول، إنّ ما لم يحتسبه قادة «الإنتفاضة»، إن استحقت هذه الصفة، هو أنّ النظام التركي باشر حملة دعم عسكرية لنظام الشرع وأخرى ديبلوماسية كان تعهّد بها لحماية وحدة سوريا، وقد ترجمها بسرعة قياسية بالتفاهم الذي عقده مع حزب العمال الكردستاني في اتجاه تعزيز وقف النار مع مسلحيه في الشمال السوري. كما لم يحتسب هؤلاء ردّ الفعل الروسي المتوازن سعياً إلى وقف العمليات العسكرية، ولم يُعطِ أهمية للمناشدات التي طالبته بدور عسكري لحماية أقليات المنطقة، وهو لا يملك القوة العسكرية اللازمة لمثل هذه المهمّة بعد تقليص وجوده العسكري إلى نقطة ما قبل الصفر بقليل. فيما باشرت موسكو اتصالاتها لضبط الوضع وسط مخاوف من توتر تركي - ايراني قد يتطوّر إلى العلن إن توسعت رقعة العمليات العسكرية ولم يُطوَّق ما حصل في الساعات، لا الأيام المقبلة، قبل أن تتفكّك بعض التحالفات الحالية.