بقلم الدكتور سليم الزيبق
خاص – "ايست نيوز"
في الوقت الذي قررت فيه الحكومة في اجتماعها الاخير الخميس الماضي العودة الى اعتماد المقر الدائم لمجلس الوزراء في المتحف لعقد اجتماعاته عملا بما قال به اتفاق الطائف. وغداة هذه الخطوة تعددت الاسئلة عن باقي الإصلاحات المطلوبة ومنها التوصل الى نظام داخلي لمجلس الوزراء يحدد صلاحيات نائب رئيس الحكومة التي طال انتظارها. ولالقاء الضوء على هذه الخطوة الاصلاحية وما يمكن ان تقود اليه، أعد الأستاذ الجامعي في القانون العام المتقاعد من كلية الحقوق - جامعة ستراسبورغ - فرنسا الدكتور سليم الزيبق دراسة مفصلة تنشرها "ايست نيوز" على جزئين وهذا هو الجزء الثاني والاخير:
ثانيا: عدم إلزامية تعديل الدستور لتحديد صلاحيات نائب رئيس مجلس الوزراء
هل إن الطبيعة الدستورية العرفية لمنصب "نائب رئيس مجلس الوزراء" تحول دون أن يحل "حُكما" شاغل هذا المنصب، محل رئيس المجلس، في حال غيابه أو تعذّر قيامه بمهماته، في ممارسة صلاحيات الرئيس؟ في حال كان الجواب ايجابيا، هل أن عدم ذكر نائب الرئيس بنص دستوري مكتوب يحول دون ممارسته أية مهمة، مما يستوجب تعديل الدستور؟
أسئلة ساذجة لمن لا يُلِم بطبيعة النظام اللبناني. فلا نعتقد أننا بحاجة لأمثال "سيبويه"، ليشرحوا لنا أن صلاحيات نائب الرئيس محددة بإسم منصبه: أليس "نائب الرئيس" هو من يحل محل "الرئيس" أثناء فترة غيابه؟ الجواب كلا في لبنان. فكما أن لكل مجتمع منظّم دستوره فان التركيبة السياسية اللبنانية وتوازناتها قضت بأن يتولى رئاسة الحكومة شخصية من الطائفة السنية يؤمن عبرها مشاركة هذه الطائفة في إدارة شؤون الحكم (الدكتور سليم الحص: عهد القرار والهوى، دار العلم للملايين 1991 ص. 164)، إذ ليس من المعقول والمقبول أن تتأمّن هذه المشاركة بغير أحد أبناء هذه الطائفة.
من المنطقي أن يُرَد على هذه الحجة بأن نائب رئيس مجلس النواب، الذي أتت على ذكره المادة 44 من الدستور، يتولى صلاحيات رئيس المجلس في حال غيابه، فلما لا بالنسبة لنائب رئيس مجلس الوزراء؟
ضمن هذا الإطار، يشير الدكتور محمد المجذوب (القانون الدستوري والنظام السياسي في لبنان، بيروت، 2002، منشورات الحلبي الحقوقية، ص.353) ان النائب الدكتور عبدالله الراسي طالب في لقاءات الطائف بتحديد صلاحيات نائب رئيس مجلس الوزراء وانه تم الاتفاق بين المجتمعين على " اعتبار هذه الصلاحيات مماثلة لصلاحيات نائب رئيس مجلس النواب " المشار اليها في المادة 6 من النظام الداخلي لهذا المجلس، التي تنص على ان " يتولى نائب الرئيس صلاحيات الرئيس في حال غيابه، او عند تعذر قيامه بمهمته". إلا أن هذه المقارنة محفوفة بالمخاطر نظرا لخصوصية رئيس مجلس الوزراء في النظام السياسي اللبناني، كممثل للطائفة السنية. فاستقالة رئيس الحكومة تلغي الحكومة، بينما استقالة رئيس المجلس لا تلغي المجلس. فإذا استقال رئيس المجلس حل محله نائب الرئيس إلى حين انتخاب رئيس جديد. أما إذا استقال رئيس الحكومة تستقيل الحكومة حكما ولا يحل نائب رئيسها محله (ألبير منصور: الانقلاب على الطائف، دار الجديد، 1993، ص. 160).
يتضح مما تقدم أن نائب الرئيس لا يحل "حُكما" محل الرئيس الأصيل، مما يشكل ثغرة مهمة في نظامنا نظرا لأهمية رئاسة الحكومة ولخطورة انقطاع العمل الحكومي وانعكاساته السيئة على المواطنين. فرئيس مجلس الوزراء هو الذي يدعو مجلس الوزراء إلى الانعقاد ويرأس جلساته ويوقع على المراسيم ويطرح سياسة الحكومة العامة أمام مجلس النواب (مادة 64 دستور). أمّا فيما يتعلق برئاسة الجمهورية فان المادة 62 من الدستور، استدركت هذه المخاطر بنصها على أنه "في حال خلو سدة الرئاسة لأية علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء". كذلك بالنسبة لمجلس النواب، فإن المادة السادسة من النظام الداخلي لهذا المجلس تنظم، كما رأينا سابقا، هذا الأمر. أما بالنسبة للوزراء فإن مرسوم "تعيين الوزراء بالوكالة" يحول دون انقطاع العمل في هذه الوزارات. (أنظر على سبيل المثال المرسوم 8382 بتاريخ 12 تشرين الأول 2021). وأخيرا حتى بالنسبة للحكومة برمتها، أي في حال استقالتها، فإن نظرية "تصريف الأعمال الجارية" (Expédition des affaires courantes) تؤمن استمرارية عمل المرافق العامة. أما بالنسبة لرئيس مجلس الوزراء، فان المادة 53 من الدستور تسمح لرئيس الجمهورية بأن "يدعو مجلس الوزراء استثنائيا، كلما رأى ذلك ضروريا، بالاتفاق مع رئيس الحكومة". فيما عدا ذلك فالفراغ شامل ومقلق معا، لأنه يؤدي، في حال مرض أو غياب رئيس الحكومة إلى شلل العمل الحكومي، لاسيما انه ومنذ اتفاق الطائف لم يعد بإمكان رئيس الجمهورية إقالة الحكومة.
فأمام هذا المأزق، حصل أن عُهِد، عدة مرات بصلاحيات رئيس الحكومة بالوكالة، إلى نائب رئيس الحكومة. (أنظر على سبيل المثال المرسوم الرقم 2525 بتاريخ 23/12/1971 - تكليف الدكتور الياس سابا بمهام رئاسة مجلس الوزراء بالوكالة عند غياب رئيس الحكومة في الخارج - المرسوم الرقم 3543 بتاريخ 7 تموز 1972 – تكليف الدكتور ألبير مخيبر بهذه المهام). إلا أن البعض يعتبر أن ما كان جائز في ظل دستور سنة 1926 لم يَعد ممكنا بعد تعديل الدستور سنة 1990، نظرا لأن هذا التعديل كرّس بنصوص دستورية الصلاحيات العرفية لرئيس الحكومة، دون أن يجيز له بنص صريح على إمكانية تفويضه لهذه الصلاحيات، إذ لا تفويض بدون نص، وبالتالي لا صلاحيات بدون تعديل الدستور. (من هذا الرأي الدكتور زهير شكر: الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار بلال، ص.661 . الدكتور وليد عبلا، مرجع سبق ذكره)
من الصعب تأييد هذا الرأي لأن قانونية أو عدم قانونية تكليف سلطة معينة مُمَارَسَةَ صلاحيات سلطة أخرى، لا ترتبط بمصدر القاعدة القانونية التي نصت على الصلاحية (قاعدة مكتوبة – قاعدة غير مكتوبة) وإنما بنوع العمل القانوني acte juridique)) الذي نظم عملية التكليف.
إن الصلاحيات في القانون العام محكومة بمبدأ الممارسة الشخصية وذلك نظرا لاعتبارها خدمة للمصلحة العامة وليست ملكا لصاحب الصلاحية. إلاّ أن التطبيق الصارم لهذه القاعدة يمكن أن يتعارض مع مبدأ استمرارية المرافق العامة. لذلك فإن العلم والاجتهاد يسمحان باستثناءات، ما يهمّنا منها لمقتضيات البحث: التفويض (la délégation ) وخاصة تفويض الصلاحيات (de pouvoirs Délégation) والتوكيل (l'intérim).
فتفويض الصلاحيات يحتاج إلى إجازة قانونية ومن الصحيح أن هذا لا يتوافر لرئيس الحكومة، إذ لا وجود لأي نص في دستورنا يسمح له "بتفويض" صلاحياته. إلا أن هذا الاستثناء لا ينطبق على إشكالية موضوع بحثنا. "فالتفويض" يهدف إلى تخفيف الأعباء الإدارية عن أصحاب الصلاحيات ولا يشترط غياب أو مرض أو سفر هؤلاء.
« L'objet de la délégation est surtout de permettre à une autorité de se décharger de façon durable sur ses collaborateurs ». (Le Bos- Le Pourhiet : «le remplacement du premier ministre empêché : intérim ou délégation ? R.D.P., 1984). cf. aussi Jean Waline, Droit administratif, Dalloz, 26éme édition, 2016, p.441.
كذلك فإن تفويض الصلاحيات يؤدي إلى انتقال قانوني كامل للصلاحيات موضوع التفويض حتى صدور نص يلغي التفويض.
أمّا الوكالة (intérim) فتهدف إلى تدارك إمكانية توقف العمل في المرفق العام في حال غياب أو مرض أو تعذر صاحبها وهي لا تحتاج إلى أي إجازة قانونية. كذلك فإن صلاحية الوكيل تنتهي حكما فور عودة الأصيل إلى ممارسة أعماله.
« L'intérim permet, en l'absence de tout texte d'assurer l'exercice d'une compétence que son titulaire n'est pas à même d'effectuer » J.M. Auby « L'intérim », R.D.P., 1966, p. 865.
وهذا ما أكّد عليه الاجتهاد الإداري والدستوري في فرنسا. ففي قضية تتعلق بقانونية مرسوم يحمل توقيع وزير العدل بصفته كنائب لرئيس مجلس الوزراء "بالوكالة"، أثناء فترة غياب الرئيس الأصيل، وافق مجلس شورى الدولة الفرنسي على دستورية المرسوم:
« Qu'en conférant au Garde des Sceaux les pouvoirs du Premier ministre... le Président de la République a pris les dispositions nécessaires pour assurer la continuité de l'action gouvernementale ; que les mesures ainsi adoptées ne sont pas contraires à aucune disposition constitutionnelle ».
C.E., Ass. 31 oct. 1980, F.E.N., JCP 1983-II 20003,not J-M, Auby .
كذلك فلقد تسنّى للمجلس الدستوري الفرنسي أن يعتمد نفس الموقف.
C.C., 29 déc. 1989, RFDA, 1980 p. 145; C.C. 9 janvier 1990 , LPA,6 juillet 1990.
ولا يُردُّ علينا بأن دستورية هذا التكليف تنبع من كون المادة 21 من الدستور الفرنسي تجيز هذا "التفويض"، خاصة وان المرسوم المطعون فيه أُخذ استنادا إلى هذه المادة. فكما راينا سابقا، ان الوكالة، خلافا للتفويض، لا تستوجب وجود أي نص.
( on parle d'intérim lorsque le remplacement provisoire n'est pas organisé par un texte), Jean Waline, ouvrage préc. p.442.)
يتضح مما تقدم انه لا يوجد أي عائق دستوري يحول دون أن يوقع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء على مرسوم يمنح نائب رئيس مجلس الوزراء حق ممارسة صلاحيات رئيس الحكومة "بالوكالة" طيلة فترة غياب أو مرض أو تعذر الرئيس الأصيل. من الصحيح انه من المتفق عليه علما واجتهادا أن "الوكيل" يمارس جميع صلاحيات الأصيل مما لا يمكن قبوله في ظل نظامنا السياسي.
إلا انه لا شيء يمنع من أن يحدد مرسوم الوكالة طبيعة ونوعية الصلاحيات المشمولة بالوكالة :
« Rien n'interdit en droit que l'acte désignant l'intérimaire et fixant ses attributions n'en limite l'étendue ». Cf. R. Chapus, Droit administratif général, tome I, Montchrestien,14éme édition, p.1076.
الا ان الحل الأمثل يبقى الحل الدائم الذي ينطوي على الاخذ برأي مجلس الشورى اللبناني، السابق ذكره، (رقم 80 /92 الصادر بتاريخ 25/5 /1992)، والهادف الى تعديل مرسوم اعمال مجلس الوزراء( رقم 2525، تاريخ 1/8/ 1992)، بحيث ينص على ان نائب رئيس مجلس الوزراء يحل محل الرئيس في حال غيابه. ولاحترام هواجس البعض يمكن للمرسوم أن يَنُصّ على أن الوكيل يقوم بتصريف الأعمال الجارية، مما لا يشمل الاستقالة ولا يمس بالصلاحيات التي تؤمن مشاركة ممثل الطائفة السنية في شؤون الحكم، وهذا ما عبّر عنه قبوله صراحة دولة الرئيس الدكتور سليم الحص. (عهد القرار والهوى، ص. 164).
ان هذا الحل يتطابق أيضا مع ما تم الاتفاق عليه في الطائف. فحين سُئل عراب الطائف، الرئيس المرحوم حسين الحسيني عن موضوع صلاحيات نائب رئيس مجلس الوزراء، قال " لقد تم الاتفاق على ان تكون له صلاحيات الرئيس عند غيابه باستثناء الآتي : - ان لا يكون له حق تقديم استقالة الحكومة ... ووضع بيان وزاري، او مخالفة مضمون البيان الذي يضعه رئيس الحكومة ويوافق عليه مجلس الوزراء ، ويرسم سياسة الحكومة. – ان لا يخالف هذه السياسة ... وان لا يكون له حق تمثيل الحكومة والتكلم باسمها او ادخال أي تعديل على هيكليتها لجهة عدد أعضائها"، (راجع كتاب الدكتور محمد المجذوب السابق ذكره، ص. 355).
إن ضرورة هذا الحل تكمن في ان مجلس الوزراء أصبح منذ دستور الطائف "مؤسسة" دستورية لها كيان خاص. فهل يحتفظ المجلس بصفة "المؤسسة" في حال القبول بتوقفه عن العمل فترة غياب رئيسه؟ بالطبع كلا.
ثم هل من المعقول، كي لا نقول من اللياقة، ان لا يشير مرسوم تنظيم أعمال مجلس الوزراء، ولو بكلمة واحدة، إلى نائب رئيس هذا المجلس؟
هناك من قال ان هذا الاقتراح قوبل بالرفض من الرئيس عمر كرامي والرئيس رشيد الصلح بسبب طرحه من زاوية طائفية. فهل من امل بطرحه مجددا من زاوية قانونية بحتة، أي عملا بمبدأ استمرارية السلطات العامة؟ وهل يأتي الحل عن طريق من لا شبهة عليهم بإصابتهم بداء الطائفية، أي الرئيس نواف سلام ونائبه الدكتور طارق متري؟ لعل وعسى.
· ثلاث مرات في عهد الرئيس إميل لحود: حكومة الرئيس رفيق الحريري الأولى (الأستاذ عصام فارس) والثانية (الأستاذ عصام فارس) وحكومة الرئيس عمر كرامي (الاستاذ عصام فارس). -مرة واحدة في عهد الرئيس ميشال سليمان: حكومة الرئيس نجيب ميقاتي (الأستاذ سمير مُقبل) - مرتان في عهد الرئيس ميشال عون: حكومة الرئيس سعد الحريري الثانية (الأستاذ غسان حاصباني) وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي (الأستاذ سعادة الشامي) والمرة السابعة في عهد الرئيس جوزاف عون: حكومة الرئيس نواف سلام (الدكتور طارق متري).
أستاذ جامعي في القانون العام متقاعد- كلية الحقوق- جامعة ستراسبورغ - فرنسا