عاجل:

اختلاسات رياض سلامة: هكذا اشترى الحاكم السابق سكوت HSBC في سويسرا (الأخبار)

  • ٥٢

كتبت رلى ابرهيم:

في وقت يكتفي القضاء اللبناني بالتحقيق في شيكات مالية بقيمة 44 مليون دولار، حوّلها الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة من حساب الاستشارات في المصرف إلى حساب المحامي ميشال تويني، ومنه إلى حساب مروان عيسى الخوري (ابن شقيقة سلامة)، لتنتهي في الحساب الخاص للحاكم السابق في البنك المركزي مجدّداً، ثبّت القضاء السويسري عمليات تبييض أموال نفّذها عبر مصرف HSBC في جنيف.

وتوصّلت التحقيقات التي شارك فيها إلى جانب السويسريين محقّقون فرنسيون ولبنانيون إلى أدلّة موثّقة حول تجاوزات خطيرة ارتكبها المصرف السويسري عبر «غضّ النظر» عن أكثر من 300 معاملة وصلت قيمتها إلى 330 مليون دولار (راجع «الأخبار» الجمعة 23 كانون الأول 2022)، ونُفّذت على مدى أكثر من 13 عاماً بين مصرف لبنان وHSBC في سويسرا وحسابات شركة «فوري» (يملكها شقيق الحاكم السابق رجا سلامة ومسجّلة في جزيرة تورتولا أكبر الجزر في الجزر العذراء البريطانية).

واتّهمت هيئة الرقابة على الأسواق المالية السويسرية (FINMA)، قبل نحو عام، بنك HSBC Private Bank بالفشل بشكل خطير في الوفاء بالتزاماته المتعلّقة بمنع غسل الأموال، وعوقب بحرمانه مؤقّتاً من إقامة علاقات تجارية جديدة مع فئة العملاء ذوي المخاطر العالية، على أن يقدّم بياناً كاملاً بالمسؤوليات داخل مجلس إدارته.

غير أن الفضيحة لم تطاول المصرف المركزي السويسري الذي مُنعت أي ملاحقة جنائية بحقه رغم الدور الأساسي الذي لعبه في قضية سلامة. ويبدو أن حال سويسرا ولبنان واحد في هذا الاطار، إذ يحقق القضاء اللبناني بخجل في اختلاسات سلامة، لكنه يمتنع عن فتح ملفات مصرف لبنان بالكامل بما يطاول حكماً نواب الحاكم المتعاقبين ورؤساء الدوائر الإدارية والمالية فيه، إلى جانب المصارف الخاصة اللبنانية وعدد كبير من الشركاء السياسيين وغير السياسيين.

غير أنه على الأقل في سويسرا، انكشفت خارطة الاحتيال الإجرامي بشكل واضح أمام القضاء، وبات من الصعب جداً الاستمرار في إخفاء الأوساخ تحت السجادة، خصوصاً بعد دخول لبنان على خطّ هذه القضية إثر ادّعاء الرئيسة السابقة لهيئة القضايا في وزارة العدل القاضية هيلين إسكندر (نيابة عن الدولة)، قبل تقاعدها، على مصرف HSBC في سويسرا، وطلبت دخول الدولة اللبنانية طرفاً في الدعوى مستغلّة إتاحة القانون السويسري لممثّل أيّ دولة الادّعاء بشكل مباشر.

وهو ما سيتيح للدولة الحصول على مبالغ كبيرة جرّاء الضرر المالي والمعنوي الذي أُلحق بها خلال أكثر من 13 عاماً بسبب غضّ المصرف النظر عن التحويلات غير الشرعية، علماً أن خطوة إسكندر لم ترق يومها لوزيرَي المال والعدل السابقين يوسف خليل وهنري خوري اللذين سبق أن عطّلا إجراءات عدة لإسكندر وحاولا منعها من التدخل في التحقيقات الخارجية!

شريك آل سلامة السويسري

في سويسرا، وصل التحقيق القضائي إلى خواتيمه ونشرت منظمة Public Eye أولَ أمس التفاصيل الكاملة لعمليات تبييض الأموال، بما فيها هويات الأشخاص الذين سهّلوا مهمة الأخوين سلامة داخل المصرف السويسري بين نيسان 2002 وآذار 2015.

التحويلات التي قاربت 330 مليون دولار انتقلت من مصرف لبنان إلى حساب شركة Forry Associates في بنك HSBC الخاص في جنيف. هذه الشركة التي يستفيد منها اقتصادياً رجا سلامة، والتي أظهرت متوسط إيرادات سنوياً بقيمة 25 مليون دولار رغم عدم وجود مكاتب خاصة لها ولا موظفين، أصبحت بكبسة زر من الحاكم مخوّلة بيع وشراء سندات الخزينة واليوروبوند الصادرة عن مصرف لبنان لقاء منحها عمولات.

لذلك، كان لا بدّ لعمل مماثل أن يثير شكوكاً في البنك السويسري الذي أطلق نظام المراقبة الداخلي فيه أول تنبيه حول الأمر عام 2006. فبين حزيران وأيلول من ذلك العام، وصلت خمسة تحويلات مالية من مصرف لبنان إلى المصرف الخاص في جنيف فاقت قيمتها 8 ملايين دولار تحت عنوان «قرار المجلس المركزي/ رسوم وعمولات».

وحين طلب القسم المختص بهذه القضايا في HSBC توضيحات، أكّد مدير الحسابات فيه أن لا شيء يدعو للريبة، مشيراً إلى أن رجا سلامة عمل في Republic National Bank of New York في بيروت قبل إنشاء Forry Associates، وهي شركة استشارات مالية مفوّضة من قبل مصرف لبنان لتسويق سندات الخزينة واليوروبوندز.

وحول المبالغ المالية الخارجة من حساب الشركة، طمأن «المسؤول الكبير» بأنها من استثمارات رجا العقارية في لبنان، موضحاً أنه تفقّدها خلال زياراته إلى لبنان وهي موزّعة بين عقارات وشاليهات. وأظهرت التحقيقات أن هذا المدير كان رجل الأخوين سلامة في المصرف وأمّن لهما الطريق أمام عمليات التبييض على مدى سنوات.

في ذلك الوقت، كانت إجراءات KYC (اعرف عميلك) لا تزال في بدايتها، وكان يُفترض بالرابط العائلي بين رجا ورياض أن يصنّف الأول مباشرة ضمن العملاء الذين يشكّلون مخاطر أكبر من غيرهم في ما يتعلق بغسل الأموال، ما يتطلب التعامل معهم بإجراءات أكثر صرامة. وهنا تكمن المخالفة الأساسية للمصرف السويسري نتيجة غضّ النظر عن هذا الإجراء وعدم تصنيف رجا ضمن هذه الفئة إلا بعد 11 عاماً!

المجلس المركزي في دائرة الاتهام

وبحسب ما عرضته المنظمة السويسرية نقلاً عن القضاء، فإن مئات ملايين الدولارات تدفّقت إلى حساب شركة «فوري» الجاري من مصرف لبنان، من بينها 207 ملايين دولار أعاد رجا تحويلها مجدّداً إلى حسابات خاصة له في أربعة مصارف مختلفة في لبنان بحجة «النفقات الشخصية».

أما الجزء الآخر من هذه الأموال، فكان يُغذّي حسابات شركات وهمية أخرى في سويسرا وخارجها تصبّ جميعها في جيب مالك واحد هو رياض سلامة.

وقد حوّلت «فوري أسوشيتس» أكثر من 26 مليون دولار و9.2 ملايين يورو و5.3 ملايين فرنك سويسري من حسابات الشركة في سويسرا إلى سلامة وشركاء يدورون في فلكه.

في نهاية 2007، عُرضت القضية على لجنة مختصة في البنك (DDC) مؤلّفة من أعضاء إداريين ومن الدائرة القانونية ودائرة الامتثال. اتّخذت اللجنة قراراً بسفر «المسؤول الكبير» إلى بيروت قبيل عيد الميلاد للحصول على جواب «دقيق» من مصرف لبنان حيال التحويلات المالية الكبيرة إلى Forry Associates، علماً أن مصرف لبنان كان قد زوّد HSBC بعقد وساطة بينه وبين «فوري» موقّع عام 2002 من قبل رياض سلامة.

لكن، في ربيع 2009، أرسل أحد المسؤولين في المصرف رسالة إلكترونية إلى مصرف لبنان يطلب فيها تزويده بوثائق إضافية كان قد وُعد بها قبل عام ونصف عام.

وبعد أسابيع، أرسل سلامة رسالة عبر نظام «سويفت»، يؤكد فيها موافقة المجلس المركزي المؤلّف من نوابه الأربعة ووزير المال والممثّل المنتدب عن وزارة الاقتصاد، على دفع كامل رسوم وعمولات شركة «فوري أسوشيتس»، ما يحمّل هؤلاء جميعاً مسؤولية الاختلاسات باعتبارهم شركاء في الجرم، رغم إعلان نواب الحاكم عدم علمهم بدور الشركة الوسيطة.

أما مدير حساب رجا سلامة في جنيف، وهو مسؤول مهم في HSBC، فقد حرص على منع زملائه من طلب تفاصيل إضافية مؤكداً أن تصرفاً مماثلاً سيكون «غير مناسب أو لطيف» خصوصاً بعد التفسيرات التي قدّمها مصرف لبنان.

في هذا الإطار، أحصت Public Eye نحو عشرين طلب توضيح أرسلها قسم الامتثال إلى مدير حساب شركة Forry Associates بين عامي 2006 و2013، نظراً إلى التدفق السريع للأموال والتحويلات إلى شركات أخرى غامضة، منها شركة West Lake Commercial Inc البنمية التي تمتلك حسابات في مصرف Julius Baer Zurich، قبل أن يثبت المحقّقون السويسريون أن مالك هذه الشركة التي تلقّت أكثر من 7 ملايين دولار من «فوري»، ليس سوى سلامة نفسه.

هل يتحرك «العهد الجديد»؟

مطلع عام 2013، دقّت إحدى الموظفات في دائرة الامتثال ناقوس الخطر وأرسلت بريداً إلكترونياً إلى فريق التحقيق في الجرائم المالية، مشيرة إلى «الدورة غير العادية للأموال الخارجة والداخلة إلى حساب فوري». ونتيجة التدقيق في مسار الأموال، صُنّف رجا لأول مرة كـ«شخص مرتبط بشخصية بارزة سياسياً» PEP Associate، وهي فئة أكثر عرضة للمخاطر المتعلقة بالفساد أو غسيل الأموال أو التعاملات المالية المشبوهة.

لكن، مرة أخرى، تدخّل مدير حساب سلامة في المصرف السويسري لإعطاء التطمينات اللازمة ليبقى شقيق الحاكم عميلاً مميزاً غير قابل للمسّ به... إلى أن تولى المحققون في لجنة الاتصالات الفيدرالية (FCC) إجراء تحقيق داخلي عام 2015 حول حساب فوري وكل «الإشارات السلبية» التي لم يلتقطها المصرف السويسري الخاص. وفي المحصّلة، طلب المحققون من «المصرفي» المكلّف بمعالجة حسابات رجا أن يتوجه مجدداً إلى مصرف لبنان ليلتقي حاكمه ويحصل منه على توضيحات.

نتيجة ذلك، تلقّى HSBC نسخة جديدة من العقد الموقّع بين مصرف لبنان و«فوري»، وهو مختلف عن نسخته الأولى التي كان تحمل توقيع شخص يُدعى كيفن والتر، بينما حملت النسخة المحدثة توقيع رجا سلامة كمدير عام إلى جانب توقيع شقيقه، في حين أن المصرف لا يذكره سوى كصاحب الحق الاقتصادي للشركة. جراء كل ما سبق، أوصت لجنة التحقيق في الجرائم المالية عام 2016 بقطع المصرف علاقته مع شقيق الحاكم وإغلاق حسابه المصرفي. إلا أن HSBC تمنّع عن القيام بالإجراءات الروتينية اللازمة في حالة مماثلة، وهي إبلاغ مكتب مكافحة غسل الأموال بكل الحسابات التي تثير الشكوك فور حصولها، وفقاً لـ public eye.

مرّت 4 سنوات قبل أن يتحرك مكتب مكافحة تمويل الجرائم ويعدّ تقريراً يفصّل فيه كل التنبيهات والإشارات السلبية التي حامت حول الأخوين سلامة ومرّرها المصرف السويسري، ما اضطر المصرف إلى تقديم بيانات متعلقة بثلاثة حسابات: حساب رجا الشخصي وحساب «فوري» الذي أُغلق وحساب رياض سلامة.

وحتى اللحظة الأخيرة، حاول «المسؤول المصرفي» في البنك السويسري حماية الأخوين سلامة عبر الادّعاء بأن الإجراءات القضائية بحق الحاكم السابق في لبنان تحمل بصمات «سياسية». وقد استدعي هذا المسؤول إلى التحقيق كشاهد أمام المحاكم السويسرية في حزيران 2021. إلا أن مسار المحاسبة الحقيقية لم يطاول HSBC بعد، ولا الموظف الذي سهّل وقنّن كل تجاوزات الأخوين وساعدهما في تبييض الأموال.

ما سبق يرسم مساراً واضحاً للقضاء اللبناني حول جزء من جريمة اختلاس الأموال العامة التي قام بها الحاكم السابق بالتعاون مع شقيقه والمجلس المركزي وكبار الإداريين في مصرف لبنان، إضافة إلى دور مكمّل لوزارة المال، ولا سيما أن العملية موثّقة بشكل كامل في القضاء السويسري. وثمة تعاون منذ عام 2020 بين القضاءَين اللبناني والسويسري وتبادل للمعلومات يسمح بوضع اليد على كل تلك الوثائق، فضلاً عن إمكانية استعادة الأموال المنقولة وغير المنقولة التي جمّدتها المحكمة في جنيف.

فهل يتحرك القضاء اللبناني لاستعادة أمواله المنهوبة ومحاسبة الناهبين بشكل جدّي وفق ما جاء في خطاب قسم رئيس الجمهورية جوزيف عون والبيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام؟ أم أن كل ما كُتب لا يعدو كونه شعراً جميلاً يُتلى على مسامع اللبنانيين وأصحاب الودائع، فيقتصر التحقيق على 44 مليون دولار فقط، لـ«ينفد» سلامة فور تسديدها ويُغلق ملفه وملف شركائه الممثّلين الحاليين والسابقين في السلطة ويضيع حق المودعين والمواطنين؟

Public Eye

تضم Public Eye، وهي جمعية مستقلّة مقرها سويسرا، 29 ألف عضو. بدأت عملها عام 1968 لتسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الشركات السويسرية وإجراء تحقيقات لكشف حالات الفساد والنماذج التجارية غير القانونية وغير المشروعة التي تلحق الضرر بسكان البلدان الأخرى. ومن أهدافها حثّ السلطات السياسية والقضائية السويسرية على مكافحة الفساد وسوء الإدارة والتهرب الضريبي حتى لا تكون سويسرا ملاذاً لمن يجمعون ثرواتهم بطرق غير مشروعة.


المنشورات ذات الصلة