عاجل:

مما بين «البحر والنهر» إلى حزب «ما بين النهرين»؟ (الجمهورية)

  • ٢٥

كتب "جورج شاهين" في "الجمهورية" 

في خلال أقل من أشهر تغيّرت صورة الشرق الأوسط بطريقة لم تكن متوقعة، في مرحلة رافقت بداية حربي «طوفان الأقصى» و»الإلهاء والإسناد». فبعدما كان المطروح دولياً وقف الثانية لاستيعاب الاولى، تدحرجت الأمور وسقط النظام السوري أمام مجموعات «الثورة»، ودمّرت إسرائيل جيشه تزامناً مع دخولها جنوبه. وفتحت جبهة الحدود السورية - اللبنانية، فانحسر وجود «حزب الله» إلى الداخل اللبناني بطريقة بات فيها محصوراً بسلاحه في منطقة ما بين النهرين. وعليه كيف سيتكيّف الحزب مع الخريطة الجديدة؟.

عند قراءة مجريات الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في قطاع غزة وجنوب لبنان، يكتشف عدد من الديبلوماسيين والمنظّرين، بمن فيهم عدد لا يستهان من الخبراء العسكريين، انّ مخططات عدة كانت مخفية عليهم، ولم يتلمسوا حجم المخاطر المترتبة على خطوات مماثلة اتُخذت في غرفة ما زالت سوداء ومظلمة. ذلك انّ الدوافع إليها لم يتمّ تقييمها بعد، في انتظار ان تنجلي الصورة في أي وقت تتوقف المفاجآت التي حصلت ولم تكن يوماً إلّا في حسابات توقعات استراتيجية وتاريخية، اعتقد البعض أنّها باتت حلماً بعيد المنال لأنّها لم تكن متوقعة لألف سبب وسبب.

ويعزو المراقبون صعوبة قراءة المستقبل القريب والبعيد إلى الغموض الذي ما زال يلف الشرارة الأولى للحرب، إن قيست بتلك التي تسببت بها عملية «طوفان الأقصى» التي فاجأت الجميع في توقيتها وشكلها ومضمونها ونتائجها الهائلة التي سمحت بإيقاظ العقل الإسرائيلي العميق الذي برّر مسلسل المجازر والعقوبات التي مارسها في حق ملايين الفلسطينيين منذ أكثر من 75 عاماً، سواء اولئك الذين ما زالوا في مناطق الـ 48 او في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث نشأت الدولة الفلسطينية ولم يسمح لها بأن تعيش من ضمن الخريطة التي رُسمت لها في أوسلو وقبلها وبعدها في مسلسل الاتفاقيات والتفاهمات التي أعادت قائد حركة «فتح» ومؤسس منظمة التحرير الفلسطينية إلى رام الله بعد عقدين فصلا عن الاعتراف بها ممثلة وحيدة للشعب الفلسطيني أينما وجد، وقيام مشروع الدولة في الأراضي المحتلة.

وإلى هذه العملية وما رافقها من تفسيرات هزّت إسرائيل، إلى درجة بات ممكناً على حكومتها الأكثر تشدداً وتطرفاً في تاريخها، أن تمارس أبشع وسائل الإجرام التي لم يعرفها التاريخ «دفاعاً عن النفس». وهي عملية بُنيت قواعدها على الإدّعاء بالانتصارات الوهمية للمحور الذي قاد الحربين معاً، والتعبير عن النية بإزالة الدولة العبرية عن الخريطة، من دون الاعتراف بهول ما دمّرته آلتها العسكرية، إلى ان تمكنت من قلب الصورة ونجحت في أن تصور نفسها مهدّدة في مصيرها وبأنّها تخوض «حرباً وجودية» إلى أن نالت دعماً أعمى من الولايات المتحدة الأميركية أكبر قوة في العالم، ومعها مجموعة من الدول التي تدّعي الديموقراطية والحرّية، وتؤكّد حق الشعوب في تقرير مصيرها والعيش بكرامة على أراضيها بأن تغطي هذا المسلسل الإجرامي بكل ما انتهى اليه من إبادة شعب وخرق موصوف لا شك فيه لكل المواثيق الدولية والإنسانية. وأن تذهب بعيداً في دعمها بديبلوماسيتها وإعلامها وبكل ما انتهت اليه مصانع الأسلحة من قنابل وصواريخ ثقيلة وتكنولوجيا لم تُستخدم من قبل. متجاهلين ما انتهت اليه من مجازر على رغم من إحصاء ضحاياها وشهدائها بعشرات الآلاف شهرياً، الذين توزعوا بين قتيل وجريح ومعوق، عدا عن تدمير الأحياء السكنية فوق قاطنيها ومعها المؤسسات الطبية والإنسانية وتلك التي أُنشئت لمساعدة شعب لاجئ ومنكوب، ما زال يعيش على قطعة صغيرة من ارضه محروماً من أدنى حقوقه المعترف بها دولياً.

وعليه، فإنّ ما انتهت اليه المأساة لا تقف عند هذه المؤشرات الظاهرة، ذلك انّ العقل الإسرائيلي تمكن من الإفادة من مسلسل «الانتصارات» التي ادّعاها «محور الممانعة»، ليحيي في عقول قادته العسكريين والمتشددين الدينيين مشاريع وأحلاماً غابرة، اعتقد البعض انّها من التاريخ القديم. ومنها تلك التي قالت بأنّ الدولة التي لا تملك دستوراً ولا تمتلك خريطة لحدودها الدولية لا يمكن تحديدها قبل التوصل إلى تحقيقها، تمتد من البحر إلى النهر، أي ما بين البحر الابيض المتوسط ونهر الفرات.

على هذه الخلفيات، يتوقف المراقبون في البحث عن نصيب لبنان مما يجري في المنطقة، وما يمكن ان تعكسه التطورات على ساحته الداخلية. فلا يرون أي إفادة في نبش الماضي، وهي تركّز على ما يمكن القيام به لإنقاذ لبنان من الأتون الذي زُجّ فيه، في مرحلة تتخبّط فيها المنطقة على وقع مشاريع وأحلاف كبرى قد لا تراعي مصالحه التي تعني جميع أبنائه، والاتعاظ مما هو مطروح عليه اليوم من إجراءات تؤدي إلى إخراجه من ترددات الزلازل التي تعيشها المنطقة وتلك الإضافية المتوقعة. ذلك انّ المشخاطر الكبرى المحتسبة تقدّر في حال بقيت الامور فالتة على غاربها دون اي مشروع يضع حداً للتقلّبات الكبرى ووقف المعادلات التي نشأت في دول الجوار، ومن أجل وضع خريطة نهائية تحفظ حدوداً وأنظمة على ما هي عليه من حدود معترف بها دولياً، قبل ان تنجح إسرائيل في تفريغ جبهتها الداخلية من أي مخاطر ديموغرافية ثبت انّها الأكثر خطراً عليها في ظلّ عجز دول الطوق ومعها الدول العربية كافة، عن ممارسة أي فعل قصاص في حق من استولى على أراضي الغير ويستعد لوضع اليد على مزيد منها في محيطها، والإمعان في تفتيتها وتصفية ثرواتها وتدمير مقومات العيش فيها.

وبناءً على ما تقدّم، لا يتجاهل المراقبون المحايدون حجم المخاطر التي يواجهها العهد الجديد الذي يسعى لإنقاذ ما تبقّى من بنيان الدولة ومقومات عيش أبنائها، على قاعدة عودة الجميع إلى أحضانها الشرعية، والتخلّي عن المغامرات الكبرى التي ثبت سقوطها بمسلسل الضربات القاضية. ولعلّ أخطرها وأكثرها معاينة في الأيام الاخيرة، تلك الأحداث التي أبعدت «حزب الله» عن الداخل السوري وعن قرى لبنانية أبقاها ترسيم الحدود قبل قرن من الزمن من ضمن الحدود الجغرافية السورية.

وفي النهاية، يعترف كثر بأنّه لا بدّ من الإعتراف بوضع جديد يحدّد دور ومصير الحزب الذي اضطر في فترة قياسية أن يتخلّى عن أدوار كبرى كانت له في المنطقة. فهو الذي اعتقد، وربما كان صادقاً، أنّه قادر على إدارة دولة شبيهة بالحلم اليهودي تمتد «من البحر إلى النهر» ليعترف بأنّه بات محاصراً بين نهرين في منطقة تمتد من مجرى نهر الليطاني إلى مجرى نهر العاصي. وهي معادلة تستند إلى انتهاء ادوار لعبها في لبنان وسوريا والعراق، وربما إلى ما هو أبعد منها إن اصرّ بعض قادته على ما قدّمه من خبرات بنت قدرات الحوثيين في اليمن بسلاح يصعب تحديد الهدف منه اليوم.


المنشورات ذات الصلة