فيما كان لبنان «يمرّر» تعيينَ حاكم المصرف المركزي بين «ألغام» سياسية يخشى أن تشكل طلائع قوة «دفع عكسي» للزخم الذي انطلق به عهد الرئيس جوزف عون، ولاقتْه الحكومةُ الجديدةُ التي يترأسها القاضي نواف سلام، انشدّت بيروت إلى مدينة جدة التي استضافتْ لقاءً لبنانياً - سورياً محوره ملف الحدود بين البلدين بأبعاده المتشابكة، التقنية والأمنية والعسكرية، والتي تطلّ في جوانب منها على تعقيداتٍ «مزمنة» عمرها عقود وأخرى وليدةَ ما رافَقَ «التلاحم الإستراتيجي» بين «حزب الله» ونظام الرئيس بشار الأسد من تحوُّل بلاد الشام حلقة الوصل «الذهبية» في قوس النفوذ الإيراني المترامي من طهران حتى جنوب لبنان، وصولاً لِما شهدته منطقة الهرمل وامتدادها في ريف القصير من مواجهاتٍ دموية أخيرة في البقعة الأكثر التصاقاً بصورة «الحدود - الممرّ» لتهريب السلاح و«اخواته» على أنواعها.
ومنذ أن كُشف أن اللقاء الذي كان مقرَّراً عقده الأربعاء في دمشق بين وزير الدفاع اللبناني ميشال منسى ونظيره السوري مرهف أبوقصرة، وأرجئ بذريعة انتظار ولادة الحكومة السورية الجديدة نُقل إلى جدة مع تحديد أمس، موعداً جديداً له، ازدحمت الأسئلة حول معاني هذا التطور خصوصاً لجهة رعاية المملكة العربية السعودية و«توسيطها» في هذا الملف الحساس، هي التي تحوّلت في الفترة الأخيرة «قوة الجاذبية» الدبلوماسية الأقوى في المنطقة ومنصةً لأدوارٍ ما فوق عادية على صعيد مساعي إرساء «السلام العالمي»، بما كرّس موقعها كرافعةٍ ذات ثِقل وتأثير دولي تنفرد به في الإقليم وتتفوّق على سائر لاعبيه.
وقبيل اللقاء في جدة، قالت مصادر لبنانية رفيعة المستوى لـ «الراي»، انه خلال زيارة عون للمملكة (3 مارس)، وكذلك الرئيس السوري أحمد الشرع (فبراير) أبدت الرياض استعدادها للعمل على رعاية وساطة لحل الملفات العالقة بين بيروت ودمشق، لافتة إلى ان اضطلاع السعودية بهذا الدور مرده إلى حرصها على الاستقرار على الحدود اللبنانية – السورية وانضباطها وعدم انزلاقها إلى توترات واشتباكات وعلى وقف التهريب.
وأشارت المصادر إلى ان لبنان أبدى رغبة في طرح ملف ترسيم الحدود في سياق المفاوضات التي ترعاها المملكة الحريصة على الاستقرار في لبنان وسوريا على حد سواء، كاشفة عن إمكان تشكيل لجان مشتركة – في ضوء لقاء جدة - لمعالجة الملفات العالقة وحلّها برعاية السعودية التي ستكون ضامنة لمسار المعالجات التي تشمل نحو 20 عنواناً، بينها أيضاً النازحون ومصير فلول النظام السابق الذين لجأوا الى لبنان وضبط الحدود في الاتجاهين.
«ممر آمن»
ولم تحجب هذه الرعاية السعودية المباشرة، الأنظارَ عن تحركاتٍ دبلوماسية موازية في اتجاه لبنان ومنه نحو الخارج، وذلك في سياق محاولاتِ إيجاد «ممر آمن» من مرحلة الحرب الاسرائيلية التي لم يوقفها اتفاق وقف النار بل أدخل عليها تعديلاتٍ في «شكلها» وليس الأهداف «الثابتة» (إنهاء وضعية سلاح «حزب الله» خارج الشرعيةٍ) التي تغطيها «على طريقتها» الولايات المتحدة التي تسعى إلى إطار متكامل لحلّ «المرة الأخيرة» ولو عبر تجريع بيروت «الكأس المُرة» بتطبيعٍ يصعب تَصَوُّر عبور الوطن الصغير منطقة الأعاصير أو إطلاق ورشة إعادة الإعمار من خارجه، علماً ان هذا جوهر المسار الذي أعلنت عنه نائبة المبعوث الأميركي إلى المنطقة مورغان أورتاغوس بحديثها عن مجموعات عمل دبلوماسية ثلاثية بين لبنان واسرائيل لبت نقاط الخلاف بالتوازي (التلال الخمس التي أبقتها تل أبيب تحت الاحتلال وأسرى الحرب اللبنانيين والنقاط المتنازع عليها على الخط الأزرق).
وفي الوقت الذي تتقاطع المعلومات عند ان اورتاغوس ستزور بيروت بعد عيد الفطر، مع ترجيح أن يكون الموعد منتصف الأسبوع المقبل بعد أن تكون عقدت لقاءات في تل أبيب، وذلك على وقع رسالة نقلها الموفد الرئاسي الفرنسي جان - أيف لودريان الى كبار المسؤولين اللبنانيين الاربعاء وحضّت على تفادي مقابلة ما تطرحه واشنطن بسلبية مطلقة وإيجاد إطارٍ لملاقاته بإيجابيةٍ، برز ما نُقل عن الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جيمس هيويت من «أننا سنحكم على الحكومة اللبنانية بناء على كيفية ردها على من يهاجم إسرائيل عبر أراضيها».
ولفت في تصريحات نقلها عنه موقع «بوليتيكو»، إلى أنه «تقع على عاتق الحكومة اللبنانية مسؤولية منع الإرهابيين من مهاجمة جيران لبنان».
وأضاف «ندعم إسرائيل في ردها على قيام إرهابيين بإطلاق الصواريخ نحوها من لبنان». وتابع: «لقد دمّر هؤلاء الإرهابيون لبنان لفترة طويلة جداً، ونحض حكومة لبنان على اتخاذ الخطوات المناسبة لاستعادة السيطرة على بلادها».
وفي حين أجرى وزير الخارجية اللبناني يوسف رجي سلسلة اتصالات دبلوماسية بينها مع اورتاغوس ونائبة مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الاوسط ناتاشا فرنشيسكي ووزير الخارجية الفرنسي جان - نويل بارو في إطار المطالبة بالضغط على اسرائيل لوقف التصعيد، أكد وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي لنظيره اللبناني موقف القاهرة «الداعم للدولة اللبنانية ومؤسساتها الوطنية واستقرارها في مواجهة التحديات الأمنية»، مجدداً التأكيد على رفض مصر لأي تحركات من شأنها أن تمسّ أمن وسلامة واستقرار الشعب اللبناني.
وحذّر عبدالعاطي من مخاطر الانزلاق لدائرة تصعيد قد تسفر عن مزيد من عدم الاستقرار بالمنطقة، مشيراً إلى «ضرورة التنفيذ والالتزام باتفاق وقف الأعمال العدائية في جنوب لبنان، والانسحاب الفوري والكامل غير المنقوص للقوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، وتمكين الجيش اللبناني من تنفيذ القرار 1701، وأهمية التطبيق الكامل والمتزامن للقرار من جانب كل الأطراف دون انتقائية».
وإذ كانت إسرائيل تمضي في خروقها لاتفاق وقف النار والتي تعتبرها تنسجم مع تفسيرها للاتفاق، وذلك عبر استهدافها بغارة 3 عناصر من «حزب الله» في منطقة يحمر الشقيف الجنوبية غداة اغتيالها (في دردغيا الجنوبية) أحمد عدنان الذي ذكرت أنه «أحمد عدنان بجيجة قائد كتيبة في قوة الرضوان»، فإن مجمل هذه العناوين ستحضر في زيارة عون اليوم لباريس حيث سيلتقي الرئيس ايمانويل ماكرون في ثاني إطلالة خارجية له منذ انتخابه بعد محطته الأبرز في الرياض بدعوة من ولي العهد رئيس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان.
حاكم مصرف لبنان
ولم يكن «محبَّذاً» عشية الزيارة لفرنسا التي تضطلع بدور في رعاية الإشراف على اتفاق وقف النار مع اسرائيل وتُرك لها أميركياً متابعة ملف الإصلاح التقني وإرساء قواعد لإعادة الإعمار بعد ان يستوفي لبنان «الشروط السيادية» (سلاح حزب الله)، أن يَظهر مجلس الوزراء على مشارف اهتزازٍ أثار خشيةً من أن تكون له ارتدادات متوالية، وذلك من بوابة تعيين حاكم مصرف لبنان الجديد والذي وضع الحكومة أمام اختبار دقيقٍ للتوازنات بمعناها العددي والسياسي، بعدما ارتسمت قبيل جلسة أمس معادلة «كريم سعيْد حاكماً بالتصويت أو التوافق».
وجاءت هذه المعادلة على وقع تَبايُن، بدا «تراكُمياً»، بين عون الذي دَعَمَ بقوةٍ خيارَ سعيْد (شقيق النائب السابق فارس سعيد) وبين رئيس الحكومة الذي تَحَفَّظَ عن هذا الاسم وكان يفضّل الوزير السابق جهاد أزعور (فضّل النأي بنفسه بعدما استشعر عدم توافق عليه) بعد استبعاد أسماء أخرى طُرحت على أن سلام يريدها، ما أوصل هذا الملف إلى حافة تصويتٍ كان من شأنه أن يشكل انتكاسةً لرئيس الوزراء في ضوء إظهار «المحاكاة الرقمية» أن أي تصويت، لم يمانعه إطلاقاً رئيس الجمهورية، كانت نتيجته ستُحسم لمصلحة خيار عون.
وبعدما وُضع عدم سير سلام بخيار سعيد، الذي وافق عليه الرئيس نبيه بري، في إطار عدم وضوح مقاربة «الحاكم الجديد» لمسار الخروج من الحفرة المالية على متن إصلاحات مالية وهيكلية تشمل القطاع المصرفي وخطة توزيع الخسائر، وصولاً إلى تسريباتٍ عن أن رئيس الحكومة لوّح بإمكان الاستقالة اعتراضاً - رغم اعتبار أوساط سياسية أن هذا الأمر كان من عُدة «عض الأصابع» - شكّل استدعاء سعيْد إلى الجلسة المنعقدة للحكومة مؤشراً إلى رغبة في تلافي التصدّع المبكر للحكومة بـ «قنبلة التصويت» وحرص على إيجاد مخرج لا يَظهر فيه أحد منكسراً، وسط إجابة «الحاكم» على أسئلة عدد من الوزراء في ما خص رؤيته وذلك لتبديد أي التباساتٍ، قبل أن يحصل تصويت ويُعيّن كريم سعيد بـ 17 صوتاً من أصل 24.