عاجل:

" كلمات في طرابلس" لعمر مسقاوي جمعت المثقفين من حولها!

  • ١٧

اقامت جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية في طرابلس حفل اطلاق ومناقشة لكتاب الوزير والنائب السابق عمر مسقاوي "كلمات في طرابلس" في قاعة الحاج سميح مولوي في مكارم طرابلس بحضور وزيره التربية والتعليم العالي ريما رشيد كرامي ومفتي طرابلس الشمال الشيخ محمد طارق امام والنواب اشرف ريفي وايهاب مطر وطه ناجي وممثل عن النائب كريم كباره كما حضر النائبان السابقان سمير الجسر واحمد فتفت ورئيس بلديه طرابلس رياض يمق ونقيب اطباء الشمال محمد نديم صافي ونقيب المحامين سامي الحسن ورئيس جمعية مكارم الاخلاق الاسلاميه في طرابلس الدكتور عبد الحميد كريمة ورئيس جمعية مكارم الاخلاق الإسلامية في الميناء الشيخ ناصر الصالح ومفتي طرابلس السابق الشيخ مالك الشعار والدكتور محمد السماك وحشد من نقباء المحامين السابقين وحضور من اهالي المدينه .

بداية النشيد الوطني ثم تحدث الاعلامي الزميل محمد الحسن مُرَحّباً ولفت الى انه في الكتاب  محطات عن  العلاقة و المشهديه للواقعيه الطرابلسيه في العلاقة بين اهل السياسة بين بعضهم البعض فيعرض  الوزير  مسقاوي في كتابه محطات وتجارب مع دولة الرئيس الشهيد رشيد كرامي ثم مع الراحل الكبير الدكتور عبد المجيد الرافعي نائب طرابلس ولا يخفي في كلامه ما تمتع به كل من الرجلين من فكر فلم يحد ولم يمل ملل متاثر بل بقي على منهج نفسه وعلى رؤيه  وضعها لذاته 

وقال الحسن ان للكتاب تتمة من خلال العلاقه التي استحضرها بل اخترعها اجترحها مسقاوي بين دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري و الرئيس الراحل عمر كرامي حتى ابان التوتر الشديد بينهما  ومسقاوي كان وزيرا في حكومة الرفيق وكان  يجتنب في كلامه ان يمس هذا التوتر بين الحريري والكرامي بصاعق بل كان يحاول ان يضفي عليه بلاسم او اصلاحا او وصلا وبعيدا عن الاصرام 

مناقشة الكتاب

ثم ناقش الوزير السابق رشيد درباس والسفير السابق الدكتور خالد زيادة الكتاب.

درباس 

وقال درباس كلمات في طرابلس – عمر مسقاوي، ساكَنَ الوقف فأصبح مسكونًا به، منذ فجر وعيه على أذان الفجر وانضمامه إلى ذلك العالم الفسيح في رحاب المنصوري الكبير، القائم في وجدان المدينة والمتمادي في وجدان العقيدة.  من قبل كان العالم الراحل جمال حمدان رائد الغوص في عبقرية المكان، ومثله عمر مسقاوي لم يكف عن إيلاء سمعه لكلام الجدر ودعاء المآذن والقباب، وشهادات السجاد الذي دَوَّنَ على نمنماته ما كان يدور في أَجْبن الأجيال التي كانت تستأمن السجود على ما يدور في ضمائرها، وتستودع البلاط أسرار التاريخ وتقلباته.

اضاف ، بين المسجد ودار الحاج كامل مسقاوي وشائج أقوى من الجوار، فهي مسرودة من خيوط التقى العائلي، وروابط المختار برعيته، وفوح العطر من طيب السجية، والانتماء إلى مدينة تداخلت فيها القناطر، فكأنها الأواني المستطرقة التي تتوازى مستوياتها، بعد امتزاج محتوياتها في بيئة البساتين المحيطة التي تعبر عن إيمانها بالله بصلوات العطر المنبعثة من أكمام زهر الليمون، أحرفًا وأناشيد وتجويدًا وترتيلًا، فلا تستطيع أن تميز الخشوع بين حجارة المساجد وحجارة الكنائس، لأنها من مقلع الإيمان الذي زود البناة بالعزيمة والصبر والذوق الرفيع والنسق المتسق، والإلفة والشعور بالانتماء إلى رعاية من في السماء.

وتابع درباس:  عمر مسقاوي، بل عمر كامل مسقاوي، كما يعتز، هو خلاصة كل ما ذكرت، وإضافة على كل ما ذكرت، لأن عمق وعيه الإيماني، تعززه تقاليد عائلته وممارستها، وتَلَقِّيه العلوم على رادة في الفقه والتنوير، جعله من أهل الآفاق الواسعة، وميزه بفرادة قراءة الحضارة الغنية في سطور المداميك الحجرية، والمنازيل، والباحات، والتكايا، وازدحام الأسواق، واصطفاف الكتب على جنبات الطرق، وذهاب الأولاد إلى المدارس حاملين على ظهورهم الغضة ثقل الحقائب ولهفة العصامية، ورسولية المعلمين والمدراء، الذين تفانوا وبذلوا ما في ضمائرهم  وإخلاصهم لتربية الأبناء ومحاربة الجهل.

 فمنذ بدأت تدرجي في مكتبه مع شريك عمرنا رشيد فهمي كرامي، أدركت أنه لا يمارس المحاماة على النسق المعروف، ولا يكتب اللوائح للمساجلة القانونية، بل هو لا يصوغ عبارة دون أن يردها إلى أصلها الحضاري، ونية الشارع، والأسباب التي أوجبت النصوص والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أفضت إليها. بل هو يؤمن أن الأشياء كلها، بجليلها وبسيطها، لها فلسفتها الخاصة، وأن الإنسانية بمراحل تطورها، تتماص فيها الحضارات وتتداخل، وعلى هذا فإنني كلما أنصت إليه شارحًا كان يأخذني إلى مجلة الأحكام العدلية، ومصادر التشريع، وتجاور القوانين، ثم يستطرد متعمقًا في شرح نصوص قرآنية وأحاديث وتفاسير، ويعرج على العلل والحكمة، مارًا بين الديانات وصولًا إلى المذهب البوذي أو ما يسمى (باللاوتسو)، وكيف أن "البراهمان" في التراث الهندي هو الحقيقة الكلية   و"الأتمان" هو إدارك جزء من الحقيقة.

واضاف : وفي مرة تجول بي في أبهاء كنيسة "سان نيقولاس" المهد الأول للمحاماة، على هدي ما خاطب الله به نبيه في سورة النساء بآيات بينات هي في حقيقتها توجيه للبشر جميعًا، وقد أنزلت حثًّا للرسول الكريم على إنصاف شخص غير مسلم في نزاعه مع شخص مسلم.

لم تمر علي فترة طويلة كي أدرك أن الرجل لا يأخذ أي أمر بسطحيته وظاهره، فهو غواص في بحور القضايا،  لا يتوقف عن البحث حتى يكشف صلة الغرض بالأصل، بلغة فريدة من نوعها، بريئة من التقعُّر، ولكنها مشدودة السبك والانتماء إلى بلاغة الأولين، وتناول الأفهام.

وإذ واكبته، بعد ذلك نائبًا ووزيرًا أخذت عنه أن المهمة، التي يتقن القيِّمُ عليها إدارتَها، يحولها إلى إنجازات لامعة، فوزارة النقل التي تبوأها، كانت مديرية عامة تابعة لوزارة الأشغال العامة، ولكنها صارت عنده مطاراً شاسعًا وموانىء للصيادين وتوسعة لمرفأ طرابلس وسياسة إنمائية لافتة للنظر، بل نظرية قائمة بذاتها تقوم على فكرة أن الإنماء المجتمعي والاقتصادي في العالم أجمع يقوم على تسهيل النقل وتنويع وسائله. ورغم صداقتي العميقة معه، ورفع الكلفة بيني وبينه، ما نظرت إليه يومًا إلا شاخصًا إلى فوق، كمفكر تنويري، لا ينطق بحرف إذا لم يكن مؤمنًا به أشد الإيمان، وهو في الوقت عينه لا يتعصب لآرائه التي استقى جوهرها من الفيلسوف الجزائري المعروف (مالك بن نبي) الذي كان رائدًا في بلورة مفاهيمه الإسلامية على ضوء ما أصاب الحضارات من تقلبات، وجنوح كثير من العقائد إلى التأثر بالاستعمار الفكري الذي نتجت عنه الحركة الاستعمارية التي مر بها العالم.

وقال ايضا :ما جلست وراء هذا المنبر لأكرر ما قلته في مناسبات سابقة، ولكن لأستثمر في مناسبة طبع هذا الكتاب الذي سعت فيه العزيزة الدكتورة لبنى سعيًا محمودًا مع فريق محترم، فأبدأ من الغلاف الأنيق المعبر الذي صممه المهندس المعماري منذر حمزة، بعد أن أعاد رسم صورة قديمة لقلب طرابلس، التقطها الفرنسيون من الجو، فنفخ في الصورة حياة، وأودعها شغفه المعروف بالمدينة ذات التراث، فأبرز المسجد المنصوري الكبير مع باحته، في موقعه المتوسط للمدينة، كأنه يستلهم فكرة الكتاب والكاتب بما هي تبادل التحلق والإشعاع بين المعصم والسوار.

أما المقالات التي وجدتها لبنى في أرشيف إنشاء     محمود الأدهمي بعناية الحارس الأمين مايز والتي تعود بدايتها إلى العام 1964، وتستمر إلى بدايات  القرن الحالي، فهي توثيق عاطفي وفكري لحقب، وأشخاص ومؤسسات، كانت كلها أسطرَ الكتاب، بل قل أسطرَ التاريخ.

فمكارم الحاج سميح مولوي التي آلت رئاستها فيما بعد إليه، دليل ساطع على صرح الروضة التي تضاهي أرقى المعاهد في لبنان، ورحيل الشيخ صلاح الدين كبارة أملى ترتيلة الوداع التي كتبها بجوارحه، والرابطة الثقافية كانت محور الحياة الثقافية والسياسية، وهو بين المعالم والأشخاص الذين تزدحم بهم كلمات في طرابلس لا ينسى عزمي الواوي الذي ألف آذان الشوارع والمدارس على أنغام آلات النفخ والمارشات والأناشيد.

وختم درباس :كأني بلبنى تعيد ترتيب المدينة على صورتها الأصيلة من خلال جمع المقالات، لتبرز حب أبيها  للمكان الطرابلسي ومكانته في نفسه، وهو الذي يرى قبل أن نرى، ويحذر من  تفسخ البنية وانفراط العقد، واغتيال البساتين، وتلويث النهر والبحر والفكر، وهو ذو الشجاعة العزلاء التي تصدت لمقولة (طرابلس قلعة المسلمين) بقول بليغ التسآل (وهل المسلمون محاصرون حتى يلجأوا إلى القلعة)؟!

عمر مسقاوي رشف من مناهل الأزهر  النقية، وتعلم الحقوق في جامعة القاهرة العريقة، وعاد مثقلًا بالمعرفة والخبرة، واندمج  في الحياة الطرابلسية  والعمل السياسي المترفع، ومارس المحاماة والوطنية برصانة واعتدال، وفهم الوقف وشرحه  وبَيَّن عبقريته، ثم راح على مر السنين، يكتب لنا صكوكًا في كلمات عن وقف خيري وذري اسمه طرابلس.

زيادة 

وقال زيادة : إن أكثر ما يرغب فيه الكاتب هو أن يرى انتاجه يطبع وينشر ويوزّع بين القرّاء، خصوصًا إذا كان هذا الإنتاج حصيلة تجربة امتدت على سنوات عطائه المهني والفكري. هذه المقالات أو الكلمات هي حصيلة تجربة عمر مسقاوي ككاتب ومراقب وناشط في الحقل العام. كلمات تقدّم لنا فكرة شاملة عن مرحلة عقود، منذ نهاية الخمسينيات وبداية ستينيات القرن العشرين وحتى أواخره. ولمزيد من الفائدة صدّر هذه المقالات التي نشرها في جريدة الإنشاء، بمقدمة مسهبة، هي بالإضافة إلى كونها سيرة أدبية ممتعة، هي سيرته الذاتية، إلا أنها في نفس الوقت سيرة جيل تكوّن وعيه في بداية أربعينيات القرن الماضي حين كانت المدينة تلتّم حول جامعها المنصوري الكبير وأسواقها وأحيائها التراثية التي تحتفظ بعبق التاريخ حسب تعبيره الأثير. كان منزل آل المسقاوي مجاورًا للجامع الكبير، لم يستطع ولا أراد عمر مسقاوي أن ينفصل عن تلك النشأة وعن هذا الجوار الذي صاغ شخصيته وأفكاره، في تلك الأوقات التي كانت طرابلس تتضامن مع أندونيسيا ضد الاستعمار الهولندي، وتحتفل بقيام دولة باكستان عام 1947، قبل أن ينشغل الطالب عمر بأخبار المغرب حين انتقل للدراسة في بيروت، فالتقى بالحركات القومية وخصوصًا العروة الوثقى التي كان أغلب أعضائها طلابًا في الجامعة الأميركية في بيروت. في خمسينيات القرن العشرين حين ظهرت الثورات الوطنية من حركة الضباط في مصر عام 1952 إلى حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي التي أسهمت في بلورة شخصيته. إضافة إلى تأثير الأساتذة في كلية التربية والتعليم في طرابلس إلى الكلية الشرعية في بيروت التي ضمّت مجموعة من أعضاء بعثة التدريس المصرية.

لكن المرحلة الحاسمة هي في الانتقال للدراسة الجامعية في مصر حيث كان بإمكان الطالب عمر أن يلتقي بشخصيات مثل عبد الكريم الخطابي قائد ثورة الريف في المغرب ضد المستعمر الاسباني، وأن يستمع إلى أحاديث ودروس أساتذة كبار، وكان أكثر ما أثّر في تفكيره هو لقائه بالمفكر الجزائري مالك بني الذي يقول عنه أنه: "فتح لي أبوابًا مشرّعة في الرؤية وأضاف إلينا كثيرًا مما غدا طابع الكتابة والتفكير في شؤون عالمنا العربي والإسلامي. فأرسى مفهومًا للثقافة والحضارة يجد القارئ صداه في مختلف المقالات التي كتبتها حين عودتي النهائية إلى طرابلس في شباط من عام 1961". ونحن نعلم أن مالك بن بني قد أوصى عمر مسقاوي بالعناية بتراثه الفكري الكبير، وقد أوفى بما ائتمنه فأعاد نشر كل أعمال هذا المفكر الجزائري البارز.

في عودته إلى طرابلس سيباشر كتابة هذه الكلمات التي نجتمع اليوم حولها ومن أجلها. إلا أن عمر مسقاوي لم يكتفِ بالكتابة في صحيفة الانشاء. وإضافة إلى عمله المهني نجده يخوض المعارك السياسية والبلدية والشرعية متحديًا القيادات المحلية، وخلال خمس سنوات نجده في سن الثلاثين وقد أصبح عضوًا في المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى. هذه السرعة القياسية في خوض المعارك ووصوله إلى عضوية المجلس الشرعي لم تغرِه بالانتقال إلى بيروت، فإلى جانب تعلقه بمدينته اعتبر أن ميدان معركته هو طرابلس. 

قسّم عمر مسقاوي كلماته إلى ثلاثة أبواب، الأول: في الحياة السياسية في طرابلس، والثاني: شؤون ثقافية طرابلسية، والثالث: في شخصيات تركوا آثارهم في حياة المدينة. والكتاب بأبوابه الثلاثة هو عبارة عن نماذج في أدب المقالة التي أتقنها منذ مقالاته الأولى، والأبواب تلك إذ يفتحها تقوده إلى دروب ومسالك في طرابلس وعنها، يعبرها بتؤدة وتبصّر مستخدمًا تارة أسلوب الوصف، وتارة أخرى أسلوب النقد والتنبيه. خصوصًا أنه وضع نفسه في صف المعارضة للبلاط الكرامي على حد تعبيره، الذي يعاقب معارضيه في أعمالهم ووظائفهم. لكنه لا يقتصر على الوصف والنقد، فهو مشارك في الحياة السياسية والانتخابات النيابية بالتحضير والتخطيط، وهو الناشط في الحياة الثقافية إن في الرابطة الثقافية أو في جمعية مكارم الأخلاق وإعداده للبرنامج الثقافي الذي شاركت فيه نخبة من أساتذة طرابلسيين وإعلام ثقافة في لبنان والعالم العربي. 

وفي مقالة مبكرة تعود إلى عام 1962، يورد مفهومًا حديثًا لعله استفاده من مالك بن نبي الذي أخذه بدوره عن المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي صاغ مفهوم المثقف "العضوي"، يقول: "إن المثقف من يحمل مجتمعه مسؤولية فيشعر أنه عمل في جهاز كبير وعليه أن يقوم بمهمته ليسيّر الجهاز على خير وجه".

ويضيف إذا نظرنا إلى مثقفينا بهذا المنظار شعرنا بالكثير من المرارة والحزن، فهناك سلبية طاغية وإتلاف للجهود كبير. وينتقد عادات وعقد موروثة عن ثقافة "المنازيل". وإذا كانت قد تبدلت مظاهر حياتنا، فإن العادات القديمة ما زالت مسيطرة على أخلاقنا.

ويوصي بأن يستشعر المثقفون مسؤولياتهم، وأن تكون لهم صلة بالمؤسسات العامة. وما أحوجنا إلى هذه التوصية ونحن على أبواب انتخابات بلدية وبعدها انتخابات نيابية.

لكن وفي هذا السياق، لا بدّ أن نذكر بأن طرابلس لم تكن قادرة على منافسة بيروت التي أصبحت في الستينيات من القرن العشرين عاصمة للثقافة العربية تنافس القاهرة في النشر والصحافة والمجلات الأدبية وتتفوق عليها في مساحة الحرية الفكرية والسياسية والانفتاح على الثقافة العالمية وتياراتها الفكرية والأدبية ولولا محمود الأدهمي وإصراره على إصدار جريدة الإنشاء لما استطاع عمر مسقاوي أن ينشر مقالاته التي نقرأها اليوم فنجد فيها ثروة أدبية وفكرية وتوثيقًا لحياة طرابلس السياسية والثقافية والاجتماعية. 

أما عن الحياة السياسية التي كان يواكبها، فقد عمل مع مجموعة من الأساتذة والزملاء من أبناء جيله على تعضيد المعارضة وخوض تجارب لم تكتمل، إلى ذلك، فإننا نلمس اشاراته إلى فقر السياسة، ويلاحظ كمراقب وكناشط أن الركاكة قد اتسمت بها ممارسة السياسة في المدينة بين البلاط الكرامي وبين معارضين محليين. والواقع، أن طرابلس لم تشهد تغييرًا في تمثيلها السياسي خلال عشرين سنة بين سنة 1953 و1972، فالصراع كان دائمًا بين أبناء عائلات، وكما يقول فإن أحوال السياسة الطرابلسية تضرب جذورها في المرحلة العثمانية، أي أن المعيار هو الوجاهة وليس الخدمة العامة أو التشريع أو غير ذلك.

ومن أدرك الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، لا بدّ له أن يقرّ بأن طرابلس قد بلغت في تلك المدّة أوّج ازدهارها، قبل أن يفتك العمران ببساتين ليمونها. كانت المدينة قد أصبحت بحق عاصمة الشمال بأقضيته كلها، تنشط فيها التجارة والصناعة، بالرغم من ميل أهل المدينة إلى السكينة  وراحة البال، وهم بغنى عن قلق التحدّي والمغامرة.

وبالرغم من التفاؤل الذي عرفته طرابلس بسبب المشاريع الضخمة التي كانت تشهدها، مثل اكتمال الأعمال في مرفأ طرابلس، وبداية الأشغال في معرض طرابلس الدولي، في الوقت الذي تشهد المدينة ورشة لا سابق لها في توسعة مجرى نهر أبو علي. لكن الأستاذ يبدو أقل تفاؤلاً في مقال يعود إلى عام 1965، ينتقد فيه الدولة: "لانعدام التناسق بين التخطيط والتنفيذ فضلاً عن افتقار الدولة إلى سياسة ثابتة... فمنذ كارثة الفيضان، سمحت الدولة بمشاريع تقويم مجرى نهر أبو علي، ومرّت الأعوام والسنون فإن الذين رغبوا في إنقاذ المدينة من كارثة أوقعوها في كارثة جديدة، كارثة التهاون الذي لا يدخل الزمن في حساب العمل.

إن طرابلس التي كانت تشهد طفرة في التحديث، خصوصًا أن طوفان النهر وكذلك أحداث ثورة 1958، شجّع الأهالي على مغادرة الأحياء القديمة إلى المباني الحديثة التي كانت تشيّد في الزاهرية وأبي سمرا فضلاً عن مناطق أخرى. وإزاء موجة التحديث والرغبة في مغادرة القديم والتخلّي عنه، تهاونوا في التضحية بتراث المدينة التي عاشت بجوار النهر ما يزيد على ثماني مائة سنة، ما كانوا يدركون بان معالجة كارثة الطوفان جلبت كارثة أعظم فتحوّل مجرى النهر المستقيم إلى أكبر مكّب للنفايات وهو كارثة بيئية بكل المقاييس. أما مرفأ طرابلس فما زال يتعثّر في منافسة مرفأ بيروت.

ولا بدّ أن نتوقف عند معرض طرابلس الذي لم نجد وظيفة مناسبة له حتى يومنا هذا، وقد بدأ التلف يطرق أبنيته، فإننا قد نضع اللوم على الدولة في عدم إنجاز الأعمال فيه في موعدها. لكننا لم نفكر بأن الحكومات السورية لم تكن لترضى بمعرض على شاطئ البحر المتوسط سيكون منافسًا لمعرض دمشق الدولي.

وإذ نشير إلى حظ طرابلس المتعثّر مع مشاريعها الإنمائية والاقتصادية، لا بدّ أن نذكر مشروع إقامة جامعة المنار. إذ كان من المستحيل أن يرخص لهذه الجامعة في ستينيات القرن الماضي، بعد أن بدأت جامعة بيروت العربية تستقبل الطلاب عام 1960، فهل كان من المعقول أن يمنح المسلمون جامعتين واحدة في بيروت وأخرى في طرابلس؟

كلمات عمر مسقاوي هي بمثابة محطات بارزة في تاريخ مدينة طرابلس. ولا بد من التوقف معها عند بداية سبعينيات القرن الماضي. وذلك بعد ما يسميه الانتصار الذي حققته طرابلس في انتخابات عام 1972. ويطلق العبارة التي هي بمثابة شعار يمكن استخدامه في كل وقت: "أن تقلّص السلطة إلى حجم وظيفتها وتُرفع كفاءة المواطن إلى ممارسة دوره على أتّمه".

لكن طرابلس لم تهنأ بهذا الانتصار، فقد بدأت الفتنة تطل برأسها هنا وهناك تمهيدًا للحرب القادمة، التي نستذكرها اليوم بمناسبة مرور خمسين سنة على 13 نيسان 1975.

ويقدم لنا الأستاذ عمر مسقاوي تأريخًا دقيقًا لتلك المرحلة خصوصًا أن طرابلس التي عانت ما عانته من انقطاع في المواد والطاقة، فاستطاعت بقواها الحيّة ان تؤسس التجمّع الوطني للعمل الاجتماعي بالتضافر مع الأحزاب والهيئات الإسلامية والنقابات والمهن الحرّة والعمالية، إضافة إلى الجمعيات والنوادي والشخصيات الفاعلة. وكان الأستاذ عمر أمين التجمّع الوطني الذي ألقى كلمة جامعة أعلن فيها موقف طرابلس والتزام التجمّع ببرنامج الحركة الوطنية.

وكان الأستاذ دقيقًا في تقييمه التجربة، إذ يقول: "لقد وفّر التجمع الوطني للمدينة كل ما تحتاجه من تموين، وواجه تخريب المؤسسات ولقي التعاون من الموظفين والمسؤولين، وهكذا استطاعت المدينة في ظل غياب الدولة أن تكون أقوى من الأزمة بشبابها ونشاطهم، وذاكرة المدينة لا تنسى جهودًا عملت بعيدًا عن أي تطلع سياسي أو وجاهة حتى فاجأت في مصداقيتها الجميع".

هذا في زمن الحرب، أما اليوم فالتسيب يهيمن على المدينة والفوضى واللامسوؤلية تتحكم بمؤسساتها.

واليوم بعد خمسين سنة على تجربة التجمّع الوطني النموذجية، نجد أن طرابلس قد أصيبت بما يشبه العقم، فلا أحزاب ولا هيئات ولا نقابات ولا جمعيات فاعلة وقد خسرت تعدديتها، وصناعتها واضمحّل دورها في السياسة اللبنانية.

لم يبقَ لنا سوى كلمات عمر مسقاوي لعلّها تكون حافزًا للأمل والعمل.

مسقاوي

وفي الختام القت الدكتورة المحامية لبنى عمر مسقاوي كلمة قالت فيها إن "كلماتٌ في طرابلس" هو خلاصة ستين عامًا من العلاقة الفيحاء التي نسجَتها الحياة ما بين طرابلس وابنِها أبي عمر كامل مسقاوي. ولقد أراده، هو والعائلة كلُّها، تأريخًا لذاكرة الزمان والمكان والإنسان، كما رآها أبي وعاشها أو عايشَها، ودوَّنها بحبر من روحِه قبلَ قلمِه. كلماتٌ هي مِلك كاتبِها أولًا، ومِلكُ الظروف التي أملتها وحاكت سطورَها ومعانيَها، أما أنا فقد اقتصر دوري على تجميعِها وضمِّها بين غلافين..

واشارت الى ان  فكرة هذا الكتاب ولدت منذ سنوات بمجهود مشترك بين الوالد والأستاذ مايز الادهمي تمثل بانكبابِهما على تجميع المقالات وتبويبِها. لكنَّ الأمر توقف عند هذا الحد، حتى الصيف الماضي، حين أخذتُ على عاتقي مهمة إصدار ما تم تجميعه في كتاب.  وقد كانت تلك فرصة ثمينة أتاحت لي أن أعيش عن كثب مع أفكار والدي وتوجهاته، وأن أتلمسَ عبرَها رؤيته لمجموعة من القضايا التي شغلته على مرّ السنين.

وتوجهت "بشكر خاص لوالدي على هذه الفرصة التي منحني إياها ليكون لي دور في تقديم كتابِه الذي يعكس جزءاً من إرثه الفكري. 

ولا أنسى دور شقيقاتي اللواتي، على الرغم من كونهنَّ خارج المدينة، لم يبخلنَ بدعمهنَّ الذي كان حاضراً بشكل دائم. ولأنَّ هذا الكتاب  جزء من مسيرة ممتدة   يسعدني  أن أعلن لكم أنَّنا في صدد تحضير كتابٍ جديد يتضمن مقالات الوالد  اللاحقة، والتي تتابع توثيق أفكاره ومواقفه في الإطار السياسي، لتشكل فصلاً جديداً في هذا المشوار الطويل".


المنشورات ذات الصلة