كتب يحيى دبوق:
لم يطل الوقت حتى بدأت الإشارات تتكشّف حول أهداف استدعاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إلى واشنطن بشكل عاجل، ومن دون تنسيق مسبق، إذ أعلن ترامب، خلال استقباله نتنياهو، بدء مفاوضات مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، وهو إعلان سرعان ما أكّده الجانب الإيراني، مع توضيح أن هذه المفاوضات ستكون «غير مباشرة».
وفي مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست»، أشار وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، إلى أن طهران ترى في الاتصالات الحالية «محاولة جادّة لتوضيح المواقف وفتح آفاق جديدة للدبلوماسية». وأضاف أن «المفاوضات غير المباشرة مع الأميركيين فرصة بقدر ما هي اختبار»، مشدّداً على ضرورة الاتفاق أولاً على «استحالة وجود خيار عسكري، وترامب يدرك ذلك»، مشيراً إلى انعقاد الجولة المقبلة من المحادثات غير المباشرة في سلطنة عمان، يوم السبت المقبل.
في المقابل، لم يصدر عن نتنياهو اعتراض علني على الخطوة الأميركية، غير أن ذلك لا ينفي حالة الحذر الشديد التي تبديها إسرائيل تجاه هذه المفاوضات، خصوصاً أنها لا ترى فيها المسار الأمثل للتعامل مع إيران، إذ إن تل أبيب كانت تأمل في أن يسلك ترامب خيارات أكثر قسوة وتشدّداً، شبيهة بالنموذج الليبي عام 2003، حينما جرى تفكيك القدرات النووية الليبية بعد تهديدات مكثّفة وترهيب بتبعات خطيرة
وعلى رغم ما يبدو من انحراف في المسار الحالي عن هذا النهج، يصرّ نتنياهو على أن الاتفاق مع إيران يجب أن يتبع المثال الليبي، يحيث تدخل القوات الأميركية لتفكيك المنشآت النووية بالكامل، تحت إشرافها وتنفيذها، في ما يراه السيناريو الوحيد «الجيد». وكرّر تحذيره من احتمال «مماطلة الإيرانيين في المفاوضات»، مهدّداً بأنه في حال المماطلة، «ستكون البدائل عسكرية»، مؤكداً أن هذه النقاط جرى «نقاشها باستفاضة» مع ترامب.
وتدرك إسرائيل أن عليها، على أي حال، التعامل مع الاستراتيجيات والسياسات الأميركية المتّبعة في ملف إيران، وإن كانت ترى في هذه المرحلة فرصة لتعطيل أي اتفاق محتمل، تعتبره ضعيفاً وفق معاييرها، إذ هي تسعى لمنع الوصول إلى اتفاق يتيح لإيران الحفاظ على قدراتها النووية أو تطويرها مستقبلاً، كما حصل في اتفاق 2015. والأهم بالنسبة إليها، هو ضمان أن تشمل مفاوضات ترامب مع طهران ملفات أخرى، تتعلق بتقليص نفوذ الأخيرة الإقليمي وتأثيرها في المنطقة. ولهذا، سيبقى هدف إسرائيل الاستمرار في تعزيز التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة، ومحاولة ضمان عدم التوصّل إلى صفقة تعدّها غير كافية لمعالجة مخاوفها الأمنية والتهديدات التي تشعر بها من جانب إيران وحلفائها.
في المقابل، تعتمد استراتيجية ترامب في التعامل مع إيران على أسلوب التخويف والترهيب، واستخدام التهديدات العسكرية كأداة ضغط أساسية، وذلك بهدف دفع طهران إلى تقديم تنازلات عبر التفاوض. وهكذا، يجري توظيف الحديث عن احتمالية تنفيذ ضربات عسكرية إسرائيلية، تحظى بدعم أميركي في حالتي الهجوم والدفاع، لوضع إيران أمام خياريْن: إما القبول بشروط واشنطن أو مواجهة تصعيد عسكري قد يكون مدمّراً. غير أن ترامب لا يريد الالتزام علناً بأن تكون هذه الضربات أميركية بالكامل، بل يركّز على إيصال رسالة مفادها أن الخيار العسكري سيكون إسرائيلياً بالدرجة الأولى، ما يضفي غموضاً على موقفه الفعلي ويترك مساحة للمناورة.
وتتجلّى أهمية التنسيق الأميركي - الإسرائيلي هنا، ليس فقط عبر تعزيز القدرات الهجومية الإسرائيلية واستعدادات تل أبيب الدفاعية لصدّ أي رد إيراني محتمل، بل أيضاً عبر ضمان عدم ظهور أي تعارض أو تباين في المواقف بين الطرفين. ذلك أن سياسة الترهيب التي تعتمد على تهديدات إسرائيلية لا تتماشى مع أي تصريحات مُباينة قد تصدر من تل أبيب، أو تُلمّح إلى وجود خلافات بين الجانبين.
ومن هنا، تأتي أهمية استدعاء نتنياهو إلى واشنطن، للتأكيد أنْ لا مجال لأي اختلاف في الرأي أو تعليقات سلبية بعد الإعلان عن بدء المفاوضات، إذ يرى ترامب أنه ينبغي أن تكون المقاربة الإسرائيلية متناغمة بالكامل مع الاستراتيجية الأميركية، للحيلولة دون استغلال طهران لأي شرخ بين الحليفين لتعزيز موقفها التفاوضي. ومن الواضح أن ما دار خلال الدقائق الثلاثين التي جمعت ترامب ونتنياهو، لم يكن سوى محاولة لضمان التنسيق المطلق بين الطرفين، وتأمين موافقة إسرائيلية على المسار التفاوضي الذي اختارته واشنطن، مع الحفاظ على وحدة الموقف بينهما كأداة ضغط إضافية على طهران. لكنّ السؤال يبقى: هل هذا يعني أن المفاوضات قد انطلقت بالفعل، وأن نتائجها ستكون مضمونة وفقاً لما تريده واشنطن وتل أبيب؟
المعطيات تشير إلى وجود فرق كبير بين بدء المسار التفاوضي والقدرة على استمراره، فضلاً عن إمكانات تحقيق نتائج تتوافق مع الرؤية الأميركية - الإسرائيلية، إذ إن الطريق مليء بالعراقيل والعقبات، سواء من ناحية الشروط المرتفعة التي يضعها كل طرف، أو محاولات إسرائيل المستمرة لتقويض أي تسوية تراها غير مناسبة. ورغم كل ذلك، لا يمكن استبعاد احتمال الوصول إلى نتائج معينة، وإن كانت محدودة أو غير مكتملة. ولعل ما سبق، يتّضح من تصريحات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الذي تحدّث عن «جدار كبير من انعدام الثقة»، و«شكوك في صدق النية الأميركية»، مشيراً إلى أن الأمور تتعقّد مع إصرار واشنطن على اعتماد سياسة «الضغط الأقصى».
وفي المقابل، نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن مستشار الأمن القومي الأميركي، مايك والتز، قوله إن «أي اتفاق يجب ألا يسمح بإنتاج سلاح نووي أو صواريخ باليستية»، وإن الاتفاق يتطلب «نظام تفتيش يشمل كل المنشآت العسكرية»، وهو ما ترفضه طهران بشكل قاطع.
وعلى أي حال، يظلّ السؤال: هل يمكن لتل أبيب أن تقبل بأي اتفاق لا يتضمّن هزيمة مطلقة لإيران؟ أم أنها ستواصل العمل على إفشال المسار التفاوضي؟ حتى اللحظة، تبدو إسرائيل مصرّة على تعطيل أي اتفاق ترى فيه ضعفاً أو قصوراً عن تحقيق أهدافها الأمنية. لكنّ المؤكد هو أن ترامب ليس كغيره من الرؤساء الأميركيين السابقين، ولا يمكن التنبّؤ بردود فعله، وأن احتمالية تجاوزه للمعارضة الإسرائيلية في حال نجاح المفاوضات، واردة، كما احتمالية مراعاته المصلحة الإسرائيلية، وإن بنسبة مختلفة.